بدا مؤتمر باليرمو الإيطالي حول ليبيا، المقرر عقده اليوم الإثنين وغداً الثلاثاء، مهدداً قبل انعقاده، فقبل ساعات من انطلاق المؤتمر، برزت أنباء سربتها وسائل إعلام ومواقع روسية وإماراتية، عن أن اللواء خليفة حفتر، أحد أبرز أطراف الصراع الليبي، لن يحضر هذا المؤتمر، الأمر الذي دفع رئيس الوزراء الإيطالي، جوزيبي كونتي، للتوجه بشكل سريع إلى مدينة بنغازي، شرقي ليبيا، أمس، في زيارة غير معلنة مسبقاً، هدف من خلالها للقاء حفتر وإقناعه بالمشاركة في المؤتمر، خصوصاً أن روما مقتنعة بأن غياب هذه الشخصية الرئيسية في ليبيا سيعني فشل اللقاء الإيطالي، وإسقاط مسعاها "لتحقيق الاستقرار في ليبيا وأمن حوض البحر المتوسط برمته"، كما أعلن كونتي أخيراً، وصولاً إلى صياغة خارطة طريق بشأن ليبيا.
ولم تكن عقدة حفتر الوحيدة التي تواجه انعقاد المؤتمر، إذ كانت الشكوك كثيرة في إمكان تحقيقه نتيجة فعلية لدفع الصراع الليبي نحو الحل. ولعل ما نقلته وكالة "فرانس برس" عن مصدر دبلوماسي إيطالي أنه من "غير المؤكد إصدار بيان ختامي" عن المؤتمر، وتوقعه عدم إعلان أي موعد للاستحقاقات الدستورية في ليبيا، أبرز تعبير عن التوقعات المنخفضة من هذا المؤتمر، على الرغم من أن روما كانت قد نجحت في إقناع أطراف ليبية بارزة بحضور اللقاء، وأبرزها رئيس حكومة الوفاق الوطني فائز السراج، ورئيس مجلس النواب عقيلة صالح، ورئيس مجلس الدولة خالد المشري. كما دعت روما شخصيات ليبية بارزة، وعدداً من أعيان القبائل والمجتمع المدني للمشاركة. ويشارك كذلك ممثلون من دول أوروبية ودول عربية.
كذلك فإن الجانب الإيطالي لم يعلن بشكل رسمي عن أجندة المؤتمر المرتقب، باستثناء تسريبات تحدثت عن مسارين سياسي وأمني، سيكونان ضمن نقاش القادة الليبيين خلال اليوم الأول من أعمال المؤتمر بحضور البعثة الأممية للدعم في ليبيا، قبل أن يُعلن عنها في شكل اتفاق في اليوم الثاني بحضور لفيف من القادة الدوليين. وما زاد من التشكيك بإمكان خروج المؤتمر بنتائج مهمة، هو التنافس المتزايد بين فرنسا وإيطاليا حول النفوذ في ليبيا، والذي يدفع باتجاه إطلاق مبادرات غير فعالة، ويزيد الاستقطاب السياسي الليبي، كما يقول محللون ومراقبون، يتوقعون ألا يكون مؤتمر باليرمو سوى محاولة إيطالية لخلق قوة موازية لاجتماع باريس الذي عُقد نهاية مايو/ أيار الماضي، وتعهّد الزعماء الليبيون خلاله بإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية في العاشر من ديسمبر/ كانون الأول المقبل، قبل أن يظهر عدم إمكانية تطبيق هذا الاتفاق.
كذلك، برزت أنباء عن غياب عدد كبير من الزعماء الأوروبيين، بحسب وسائل إعلام إيطالية، في مقدمتهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، ورئيس الوزراء الروسي ديمتري مدفيديف، فيما سينوب عنهم وزراء أو مسؤولون آخرون.
أما مصر، فعلى الرغم من أن رئيس الوزراء الإيطالي هاتف رئيسها عبدالفتاح السيسي، أمس الأول، لدعوته للمشاركة شخصياً، فإن الرئاسة المصرية لم تشر في بيانها عن المحادثة الهاتفية إلى مشاركة السيسي في المؤتمر. وبحسب مصادر دبلوماسية مصرية، تحدثت لـ"العربي الجديد"، فإن الرئيس المصري طلب من وزير خارجيته سامح شكري تمثيل مصر في المؤتمر، وهو ما سيشكّل أيضاً ضربة للمساعي الإيطالية لرفع مستوى التمثيل في المؤتمر. وأضافت المصادر المصرية أن الساعات الأخيرة شهدت تواصلاً مكثفاً بين حفتر ومصر والإمارات وروسيا في محاولة من حفتر للتملص من أي التزامات قد تترتب على المؤتمر، وأبرزها ضمان تعاونه مع قوات حكومة الوفاق للقضاء على المسلحين وتمهيد الطريق خلال الأشهر التسعة المقبلة لإجراء انتخابات.
ويعتبر السيسي أيضاً أن الشواغل الإيطالية والفرنسية على حد سواء في المشهد الليبي ليست هي الأهم، فبالنسبة للسيسي الذي لا يرضى بكل الخطوات التي يتخذها حفتر، ويرى بعضها تسرعاً مفرطاً للسيطرة على الحكم، يعتبر في الوقت نفسه أن هناك ضرورة قصوى لدعم جيش متماسك، لا يتبع للإسلام السياسي بطبيعة الحال، لوقف حالة عدم الاستقرار والعنف والجريمة المنظمة التي تؤثر سلباً على استقرار مصر، وتمثل حواضن للتكفيريين والإرهابيين المتحركين عبر الحدود بين البلدين، والذين تتنامى خطورتهم بعد القضاء على معظم التنظيمات المنظمة، وتحوّلهم إلى خلايا غير مركزية ومتوارية عن الأعين، فضلاً عن مساعدة مصر في جهودها للحد من الهجرة غير الشرعية، وهو التخوّف الأبرز للإيطاليين تحديداً.
ووفقاً لذلك، فإن الرؤية المصرية تختلف عن نظيرتها الإيطالية في عدة نقاط، أبرزها أسس التوافق أو التهدئة المزمعة قبل إجراء الانتخابات، وكيفية إعداد الدستور، وموقف الجيش من المؤسسات التنفيذية والتشريعية، وموقف حفتر نفسه، وضرورة إتمام عملية جمع الأسلحة من القبائل، خصوصاً في جنوب غرب البلاد، المناوئ لحفتر والمحسوب على حكومة الوفاق. لكن الاتفاق بين الرؤيتين يتركز فقط في عدم إجراء أي انتخابات قبل إعداد الدستور بواسطة لجنة مشكلة بتوافق أممي وشعبي ليبي.
ولذلك، دعا السيسي إيطاليا إلى التفكير أولاً في دعم جيش حفتر باعتباره جيشاً موحداً، ومعاونة مصر في مساعيها المستمرة للقضاء على المليشيات، بالتوازي مع التصعيد الميداني الحاصل في المنطقة الجنوبية كردة فعل على انتهاء عمليات درنة وتوقف المعارك في طرابلس، وكذلك رفع الحظر على استيراد حفتر للأسلحة، والعمل على الإسراع بصرف التمويلات التي وعدت بها الأمم المتحدة سابقاً. وأكدت المصادر أن السيسي يعتبر أن مصر أدت في عهده دوراً كبيراً في حفظ الأمن في ليبيا وتحجيم تنظيم "داعش" وغيره من الجماعات الإرهابية التي نشطت على الحدود بين البلدين خلال السنوات الخمس الماضية، ولمّح السيسي مرات عدة في لقاءات له بمسؤولين أميركيين في القاهرة وواشنطن إلى أن الإدارة الأميركية لا تعطي مصر التقدير المستحق لها لما بذلته من جهود في هذا السياق، وذلك في معرض مطالبته بانتظام المساعدات العسكرية التي علقت في أغسطس/ آب الماضي، وزيادة الدعم الأميركي لمصر لوجيستياً في حربها على الإرهاب شرقاً وغرباً، وهو لا ينفك يكرر الإعلان عن أن مصر تخوض حربها بمفردها.
على الرغم من كل ذلك، فإن السلطات الإيطالية سعت لترويج أجواء إيجابية. وقال نائب رئيس الوزراء الإيطالي، لويجي دي مايو، إن المؤتمر سيسعى لخلق فرص للقاء والحوار بين الأطراف الليبية للانتقال إلى الخطوة التالية، من دون أن يوضح شكل الخطوة التالية. وعن الغرض من رعاية بلاده للمؤتمر، قال دي مايو، بحسب وكالة "أنسا" الإيطالية، يوم الجمعة الماضي، إنه "من المهم للغاية بالنسبة لنا دعم الولايات المتحدة لنتائج المؤتمر، وبالتالي سنكون البلد الرئيسي في إدارة واستقرار ليبيا، ونحن على استعداد للعمل على أعلى مستوى لصياغة نتائج المؤتمر كخارطة طريق بشأن ليبيا"، مؤكداً أن إيطاليا "لن تخلق آمالاً زائفة".
لكن مراقبين للشأن الليبي يرون أن نتائج المؤتمر المرتقب حددتها إحاطة المبعوث الأممي، غسان سلامة، أمام مجلس الأمن الدولي، الخميس الماضي، وأعلن خلالها عن تعديل خارطة الطريق الأممية المعلنة في سبتمبر/ أيلول من العام الماضي، ورحبت الولايات المتحدة بالتعديل. وتتخلص تعديلات سلامة على خارطته في الإعلان عن تأجيل موعد الانتخابات إلى ربيع العام المقبل، وعقد مؤتمر وطني جامع مطلع العام المقبل.
ويتوقع مراقبون أن أي اتفاق قد ينتج عن باليرمو، في حال حصل، لن يخرج عن الخطة الجديدة المعدلة، بل سينتهي إلى تعديل تاريخ الانتخابات، لكن الجديد فيها أنه سيعوّل بشكل كبير على نتائج الملتقى الجامع مطلع العام المقبل، الذي سيضم أطيافاً وشرائح ليبية غير ممثّلة في الأجسام السياسية الحالية. ومن المرجح أن تنتج عن الملتقى اتفاقات تنتهي بموجبها الأجسام السياسية الحالية، وتحديداً مجلسي النواب والدولة، وهو ما قد يفسر سعي المجلسين المحموم أخيراً، لتعديل المجلس الرئاسي وحكومة الوفاق بأخرى، في محاولة منهما لتثبيت وجودهما، وللتأكيد على أنهما المعنيان بتنفيذ أو تعديل أي بند في الاتفاق السياسي. لكن السؤال هل سيُبقي مؤتمر باليرمو على اتفاق الصخيرات كإطار للحل السياسي، أم سينتج عنه جديد في ظل تعديلات الأمم المتحدة لخارطة الطريق الليبية؟
وسبقت انعقاد المؤتمر تحركات وزيارات لقادة ليبيا المعنيين بالمشاركة في المؤتمر في كل الاتجاهات، فزار السراج العاصمة التركية أنقرة، مساء الجمعة، برفقة وفد حكومي رفيع، والتقى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي أكد استمرار دعم بلاده لحكومة الوفاق والمسار السياسي السلمي لحل الأزمة في البلاد.
بالتوازي، كان وفد محلي من قادة مصراتة يزور باريس، الخميس الماضي، تلبية لدعوة فرنسية، وقالت وسائل إعلام فرنسية إن الوفد ضم شخصيات سياسية وعسكرية، فيما أكدت وسائل إعلام إيطالية أن الوفد سيتجه إلى روما بعد باريس للقاء مسؤولين إيطاليين لبحث مستجدات الوضع السياسي والمشاركة في أعمال مؤتمر باليرمو.
وبالإضافة إلى مصراتة، فإن مدينة الزنتان الليبية الواقعة إلى أقصى الغرب الليبي والتي تحظى بثقل سياسي وعسكري، ستحضر في المؤتمر الإيطالي، فالمبعوث الأممي غسان سلامة اختتم، يوم السبت، زيارة عاجلة إليها والتقى مسؤوليها، وسط أنباء عن توجّه وفد محلي منها إلى إيطاليا. ودلّ كل ذلك على سعي إيطاليا لتوسيع دائرة المشاركة في باليرمو، فلم تقتصر على القادة الأربعة كما في لقاء باريس نهاية مايو/ أيار الماضي، فمصراتة والزنتان ممثلتان في المؤتمر، وهما من أكبر المدن الليبية التي تمتلك فصائل مسلحة.