قمع الأجهزة الأمنية للمواطنين المعترضين على بدء إزالة ما تصفه الدولة بـ"التعديات والمخالفات الإنشائية" في تلك المنطقة قبل نحو عشرة أيام، يبدو حلقة جديدة في مسلسل إخلاء المنطقة، تلي مباشرة حلقة قديمة ظهر فيها رئيس الوزراء الحالي مصطفى مدبولي، عندما كان رئيساً لهيئة التخطيط العمراني في وزارة الإسكان، متحدثاً عن ضرورة "إعادة تخطيط منطقة هضبة الأهرام بالكامل، والتي تشمل نزلة السمان وكفر الجبل ونزلة السيسي".
ففي تصريحات نقلتها صحيفة "المصري اليوم" الخاصة في نهاية أكتوبر/ تشرين الأول 2009 قال مدبولي: "مشكلة منطقة نزلة السمان تكمن في أن حالة نحو 80 في المائة من مبانيها سيئة ومتردية للغاية، والمشكلة الأهم أنه يوجد تحت هذه المنطقة معبد الوادي للملك خوفو بالكامل، والذي لم يتم الكشف عنه حتى الآن بسبب مباني المواطنين". وأضاف: "من هنا جاءت فكرة المخطط بحيث يتم إزالة هذه المنازل التي تنذر بخطورة على ساكنيها مع الكشف عن المعبد وضمه للتراث الفرعوني".
وبحسب مدبولي حينها، فإن المناطق المستهدفة بالإخلاء أو إعادة التخطيط تصل مساحتها إلى 254 فداناً، وكان يقطنها قبل 10 سنوات 45 ألف نسمة، وأن نظيف اقترح تسميتها بـ"نزلة السمان الجديدة"، وأنه سيتم توسيع منازل المواطنين "رأسياً" في المنطقة لتستوعب جميع الأهالي. وكشف مدبولي في تصريحاته القديمة أيضاً أنه "سيتم استغلال جزء من المنطقة في إعادة التخطيط، وبناء منازل للمواطنين، على أن يكون التوسع رأسياً، ولا يزيد على 4 أدوار، خصوصاً أن المنازل هناك لا تزيد على دورين". وأشار إلى أن "المحدد الرئيسي سيكون منسوب هضبة الأهرام، مع تنفيذ محال تحت هذه المنازل تُستغل كبازارات".
وتعكس تصريحات مدبولي اعتقاده بأن اكتشاف مجموعة غير معروفة أو محددة من الآثار الفرعونية، يتقدّم على مصلحة سكان المنطقة، على الرغم من علاقة الأهالي الوطيدة منذ ذلك الوقت بالأجهزة الأمنية وعلاقات المصاهرة بينهم وبين عدد كبير من قيادات "الحزب الوطني" المنحل ونواب البرلمان.
وعندما ثار غضب المصريين وأتيح لوسائل الإعلام في ذلك الوقت تناول مشروع "القاهرة 2050" بالانتقاد والهجوم، أكدت المصادر الحكومية القريبة من مبارك أن المشروع لن يتم إلا بعد توفير مساكن بديلة لجميع أهالي المناطق المستهدفة بالإخلاء، خصوصاً أن مبارك كان معارضاً لإنشاء عاصمة جديدة للبلاد وتحويل القاهرة إلى مدينة سياحية ترفيهية فقط، وذلك منذ نوفمبر/ تشرين الثاني 2007 عندما صرح بأن المشاريع التنموية لها الأولوية وليس إنشاء عاصمة إدارية، مردفاً: "إننا نخطط للمستقبل ولفترة من 10 إلى 15 عاماً، وهناك دراسات عملية وتخطيط مستمر، وهذا لا يعني أننا سنقوم بتنفيذ فوري لكل ما نخطط له".
نزلة السمان ليست الأخيرة
وكان مشروع "القاهرة 2050" الذي شارك مدبولي في تصميمه، وتم حذف كل المستندات الخاصة به من المواقع الرسمية للحكومة المصرية حالياً، لا يستهدف فقط إخلاء منطقة نزلة السمان ومن قبلها بولاق أبوالعلا والوراق وغيرها من جزر النيل، بل كان يتضمن أيضاً إخلاء مناطق أخرى عامرة بالسكان، لكنها تتسم بالتخطيط العشوائي وضعف البنية التحتية، بصورة كلية أو جزئية، هي: عين شمس والمطرية، والبساتين ودار السلام، وشبرا الخيمة، والخصوص، وبولاق الدكرور، وظهير شارع فيصل، وإمبابة، والمنيب.
ووفق المشروع، كان يُخطَط لإحلال طرق وحدائق بدلاً من معظم أجزاء منطقة البساتين ودار السلام على مساحة تزيد على 700 فدان، أما عين شمس والمطرية، وهما حيان سكنيان ضخمان شمالي القاهرة، فكان من المخطط إنشاء مشروع باسم "مدينة الشمس" على معظم أجزائهما لإحياء "هليوبوليس" القديمة على مساحة 500 فدان. أما شبرا الخيمة، الحي العمالي بين القاهرة والقليوبية، فكان من المقرر تدشين حدائق وطرق في أجزاء عديدة منه.
وكان المستهدف من إزالة بولاق الدكرور في الجيزة، فتح طريق مؤدٍ إلى الأهرامات باسم "خوفو أفينيو" يمتد من شارع جامعة الدول العربية في المهندسين وينتهي في ميدان "خوفو بلازا" في سفح الأهرامات، بعرض 600 متر وطول 8 كيلومترات، ليصبح الزائر قادراً على مشاهدة الأهرامات من مناطق الجيزة الأخرى، وتنشأ حدائق بإجمالي ألفي فدان في الطريق للأهرامات.
أما منطقة المنيب جنوبي الجيزة والتي تفصل المدينة عن المراكز الحضرية والقروية الأخرى وفيها أكبر ميناء نقل بري لمحافظات الصعيد، فكان المخطط يستهدف إخلاءها أيضاً وإنشاء ميناء بري جديد متعدد الطوابق ومحطة قطار و3 فنادق فارهة، لتصبح هذه المنطقة واجهة جنوبية للقاهرة الكبرى، تستقبل القادمين من الصعيد، وتمهد طريقاً يمتد إلى الأهرامات، وطريقاً آخر يمتد إلى منطقة سقارة الأثرية التي يقع فيها هرم زوسر المدرج.
لكن حذف مخطط المشروع من المواقع الرسمية للحكومة لا يعني أن تنفيذه معطل، قياساً ببعض المؤشرات التي تمكن ملاحظتها في أوراق المشروع التي حصل عليها "العربي الجديد". وتحت بند "مشروعات يجب أن تكون منفذة بحلول 2020" يبرز مشروعان مهمان تصارع حكومة مدبولي وأجهزة السيسي العسكرية والأمنية الزمن لإنجازهما خلال عامين؛ الأول تطوير نزلة السمان وإنشاء المرحلة الأولى من "خوفو بلازا"، والثاني تطوير ضفاف النيل والمراكز التجارية، والمقصود بذلك بشكل أساسي تطوير شرق النيل في القاهرة الذي يشمل مثلث ماسبيرو ومنطقة بولاق أبوالعلا، والبدء في تطوير الجزر النيلية وعلى رأسها جزيرة الوراق.
استراتيجية الإخلاء
تثير هذه المقاربة بين ترتيب أولويات أجهزة السيسي حالياً والأهداف المحددة الموضوعة في مخطط مشروع "القاهرة 2050" قبل 10 سنوات، تساؤلات حول مدى كون هذا المخطط قائماً أو قيد التنفيذ بكامله، على الرغم من التأكيد سابقاً على تغييره وتطويره بناء على التغييرات السياسية التي تلت ثورة يناير 2011، في ظل انعدام الشفافية، ومحاولة التعتيم الإعلامي على الأحداث واعتراضات الأهالي على الإزالات المستمرة، واستخدام قانون "نزع الملكية" لإغلاق الملفات العالقة وتجاوز جهود التفاوض للإخلاء ورفع أسعار التعويض وتوفير البدائل السكنية في أماكن جيدة وقريبة.
ويؤدي التعتيم المستمر على المراد من التحركات الحكومية الحالية إلى غموض مصير المناطق الأخرى السابق ذكرها المستهدفة بالإخلاء الكلي أو الجزئي في إطار مشروع "القاهرة 2050"، لا سيما أن معظمها يختلف تماماً عن الوضع القانوني الذي يمكن اعتباره "هشاً" لسكان نزلة السمان تحديداً، فأهالي سفح الأهرامات يقرون بارتكابهم تعديات عديدة على حرم المنطقة الأثرية ومخالفتهم شروط البناء لسنوات، لكنهم في الوقت نفسه يحمّلون الحكومات المتعاقبة مسؤولية تركهم على مخالفاتهم وتقنين أوضاعهم بانتظام.
فمعظم المناطق الأخرى لا تتجاوز نسبة المخالفات فيها 30 في المائة، بحسب مصدر حكومي تحدث لـ"العربي الجديد"، مشيراً إلى صعوبة اتخاذ أي إجراءات "عامة" ضد أهالي أي من تلك المناطق في الوقت الحالي. لكنه في الوقت نفسه رجح اتّباع "استراتيجيتين" في التعامل مع تلك المناطق، بناء على معلومات من لجنة إزالة التعديات على أراضي الدولة التي يرأسها رئيس الوزراء السابق شريف إسماعيل ويمثّل فيها الجيش والشرطة ووزارة الإسكان ووزارة التنمية المحلية.
الاستراتيجية الأولى هي تواصل عمليات إخلاء جزئية أو إزالات، بكثافة عالية، في أجزاء متفرقة من تلك المناطق للإيحاء بتعدد المخالفات وعدم السماح بتقنين الأوضاع في مناطق بعينها. والاستراتيجية الثانية هي إهمال تلك المناطق تنموياً ومرفقياً، تماماً، وجعلها أكثر صعوبة للحياة، علماً بأن بعضها من بين المناطق الأكثر فقراً في العاصمة وتردياً على مستوى الخدمات، حتى يسهل الاستيلاء عليها ونقل الأهالي إلى مناطق أخرى عند الحاجة. وقد اتّبعت الحكومة الاستراتيجية الثانية بعدما بدأت أعينها تتجه صوب الجزر النيلية المراد تحويلها إلى مشاريع استثمارية عملاقة، فتم وقف التعامل على المرافق أولاً، ثم وقف توثيق البيع والشراء لأسباب مرفقية، قبل أن تتعدد الإزالات ثم تبدأ المساومة على الإخلاء وتوفير المساكن البديلة أو دفع التعويضات.
القاهرة بين 2050 و2052؟
على ضوء التطورات الأخيرة والإزالات المتسارعة، فإن أي خطوة، خفية كانت أم معلنة، لإعادة تفعيل مشروع "القاهرة 2050"، تُعتبر في حقيقتها ارتداداً إلى أكثر الفترات نيوليبرالية في عهد مبارك، وإلغاءً ضمنياً لمشروع آخر هو "القاهرة 2052" والذي كان قد بدأ الإعداد له بعد ثورة يناير في عهد رئيس الوزراء الأسبق عصام شرف، وكان مدبولي أيضاً أحد القائمين عليه، وأعلن أكثر من مرة بين شهري سبتمبر/ أيلول وأكتوبر/ تشرين الأول 2011 أنه سيكون عبارة عن "تطوير لمشروع 2050 مضافاً إليه مخططات من فاروق الباز وممدوح حمزة ورشدي السعيد، على أن يعنى أولاً بتوفير البدائل المناسبة لأهالي كل منطقة على حدة".
وفي عهد الرئيس المعزول محمد مرسي، عمل وزير الإسكان الأسبق طارق وفيق على تطوير مشروع 2052 بما يضمن تحسين الخدمات في منطقة نزلة السمان وباقي المناطق المستهدفة، من دون حديث صريح عن إخلائها. ثم تطور الأمر في عهد رئيس الوزراء الأسبق حازم الببلاوي بين عامي 2013 و2014 وتم توقيع بروتوكول تعاون بين هيئة التخطيط العمراني وبرنامج الأمم المتحدة للتجمعات السكانية لإعداد مخطط نهائي لمشروع "القاهرة 2052"، إلا أن هذا البروتوكول لم يدخل حيز النفاذ إطلاقاً، بعد إقالة الببلاوي وحكومته وتعيين إبراهيم محلب رئيساً للوزراء، ثم وصول السيسي لرئاسة الجمهورية في يونيو/ حزيران 2014.
والفارق الرئيسي بين مخططي "2050" و"2052" هو أن الأول كان يهمل الآثار الاجتماعية والاقتصادية لمخططات التطوير تماماً، أما الثاني فكان يشتمل على دراسة كاملة للآثار الاجتماعية التي قد تنشأ عن عمليات الإخلاء أو التهجير، والاستيعاض عنها بالتطوير والتحسين. فبالنسبة لمناطق مثلث ماسبيرو ونزلة السمان، كان من المقترح إنشاء مساكن جديدة في نفس المناطق أو بالقرب منها، وبالنسبة للجزر النيلية كان من المقترح تحويلها لمحميات طبيعية بالكامل وإمدادها بالخدمات المرفقية ومنع البناء عليها.
وتتناقض تحركات نظام السيسي مع خطة 2052 التي يبدو أنها أصبحت طي النسيان تماماً، في ظل خطة إعادة استغلال جزيرة الوراق وغيرها من جزر النيل، التي كانت تعتبر منذ عام 1998 محميات طبيعية، في أنشطة استثمار عقاري تتضمن تعويض الأهالي المقيمين على أراضي الجزر التي سيتم استغلالها بمساكن جديدة ستقيمها الدولة في المداخيل الأولية التي ستجنيها من عملية الاستثمار العقاري. وكذلك صدور قرار منذ أيام بنزع ملكية 67 ألف متر مربع في مثلث ماسبيرو، على الرغم من سابقة صدور أحكام قضائية لصالح الأهالي بمنع تهجيرهم وأحقيتهم في البقاء في مساكنهم، وذلك بعدما فشلت الحكومة في إقناع الملاك بالتنازل والتعويض عن 915 أرضاً وعقاراً، مقابل توصلها إلى اتفاق مع أصحاب 130 قطعة فقط.