منحت المحكمة العسكرية في الجزائر مهلة عشرة أيام، بدءا من الأربعاء، للقائدين السابقين لجهاز المخابرات، الفريق المتقاعد محمد مدين والجنرال بشير طرطاق والسعيد بوتفليقة، شقيق الرئيس المستقيل عبدالعزيز بوتفليقة، وزعيمة حزب العمال اليساري لويزة حنون، للطعن في الحكم الذي أصدرته المحكمة في حقهم ليلة الأربعاء، والقاضي بسجنهم لمدة 15 سنة، بعد إدانتهم بتهمة ارتكاب جناية "المساس بسلطة قائد تشكيلة عسكرية والمؤامرة ضد سلطة الدولة".
واستبقت المحكمة العسكرية حملة تشكيك في ظروف ودوافع المحاكمة وملابسات الملف، بييان أكدت فيه أن "جلسة المحكمة العسكرية بالبليدة تمت في إطار الاحترام التام للقواعد المنصوص عليها في قانون القضاء العسكري وقانون الإجراءات الجزائية، ومع مراعاة كل الحقوق والضمانات التي تقتضيها المحاكمة العادلة و المنصفة"، مشيرة إلى منح المدانين الأربعة الحق في استئناف الحكم أمام مجلس الاستئناف العسكري.
لكن انتهاء طور أول من المحاكمة العسكرية، على أهميتها بالنسبة للجزائريين، بسبب طبيعة الشخصيات المدانة؛ وصلة هذه الأخيرة بفترة سياسية حساسة في تاريخ الجزائر وبالمستقبل الذي كانت ستتجه إليه فيما لو نجحت خطتها للهيمنة على الحكم بعد إبريل/نيسان 2019، لم ينه الجدل السياسي بشأنها، مع استمرار جملة من التساؤلات، لجهة السرعة التي تمت بها المحاكمة، حيث لم تتجاوز 48 ساعة، على الرغم من أن محاكمات من هذا النوع كان يفترض أن تأخذ وقتا أطول من جهة، ومن جهة ثانية إبقاء هذه المحاكمة في نطاق غير معلن، وعدم تمكين الرأي العام الجزائري من متابعتها والاطلاع على كامل حيثياتها، سوى ما كشفت عنه هيئة الدفاع عن الشخصيات الثلاث، بما لم يعط صورة مكتملة عن مشهد وتفاصيل المحاكمة بالكامل.
تلك الأسئلة يطرحها رئيس حزب جيل جديد المعارض، جيلالي سفيان، معتبرًا أنها مشروعة سياسيا وإجرائيا، ويفسر جيلالي سفيان موقفه لـ"العربي الجديد" قائلا، إن "هذه المحاكمة سياسية بامتياز، بسبب طبيعة الشخصيات المحاكمة فيها، والمناصب التي كانوا يتولونها في صناعة القرار، ومصير الجزائر والجزائريين"، مضيفا أن "كون المحاكمة تمت في 48 ساعة ودون تمكين الرأي العام من الاطلاع على حيثياتها، فإن هذا يستدعي الكثير من الغموض، ويدفع أيضا إلى الاعتقاد أنها تحمل طابعا من الخلافات الشخصية".
وكانت المحكمة العسكرية قد بدأت، الإثنين الماضي، محاكمة المتهمين الأربعة حضوريا، إضافة إلى ثلاثة متهمين فارين، هم وزير الدفاع السابق خالد نزار، ونجله الذي يدير شركة خاصة للصيدلة، بشأن التآمر وعقد سلسلة اجتماعات سرية عشية استقالة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، بهدف إنشاء هيئة رئاسية تتولى تسيير المرحلة الانتقالية، استدعي لرئاستها الرئيس السابق ليامين زروال، الذي كشف ذلك المخطط في بيان نشره في الثاني من إبريل/نيسان الماضي.
لكن الرئيس السابق لحركة النهضة والناشط البارز في التنسيقية الوطنية للدفاع عن المشروع الوطني، فاتح ربيعي، لا يتبنى بدوره موقف التشكيك في طبيعة المحاكمات والأحكام الصادرة، ويعتقد أن المتهمين ارتكبوا في السابق الكثير مما يجب أن يخضعهم لأكثر من محاكمة، موضحا لـ"العربي الجديد" أن "سبب التشكيك في كل شيء، بما في ذلك المحاكمات والأحكام القضائية، مرده إلى حجم الثقة المتهاوي بين الشعب ومؤسساته بسسب حجم الفساد والاستبداد والرداءة في تسيير الشأن العام والتلاعبات المستمرة بجهاز العدالة واتخاذه مطية لتصفية الخصوم سياسيا واقتصاديا"، مستدركًا بالقول إنه "ورغم التراكمات السلبية عبر السنين، كانت المتابعات القضائية الأخيرة لرموز الفساد والاستبداد محل إشادة وإعجاب من طرف عموم الشعب الجزائري"، وفق رأيه.
ويعتقد ربيعي أن الاحكام الصادرة ضد شقيق الرئيس بوتفليقة وقائدي جهاز المخابرات مخففة مقارنة مع حجم الجرائم السياسية ومسؤوليتهم في الأزمات التي شهدتها الجزائر منذ التسعينيات، في إشارة منه إلى مسؤولية خاصة للقائد السابق لجهاز المخابرات محمد مدين في الدفع بالبلاد إلى الأزمة الأمنية في التسعينيات، والمجازر والإعدامات خارج القانون والإخفاء القسري التي تمت في تلك الفترة، حتى وإن كانت هذه القضايا لا علاقة لها بالمحاكمة الأخيرة.
ويؤكد ربيعي أن "الأجواء والظروف التي صاحبت المحاكمات كان لها نصيب في الحكم على ما صدر من أحكام، ومن وجهة نظري فإن الأحكام الصادرة، وإن كانت مخففة، فهي مجرمة لأصحابها، والتجريم الحقيقي للعابثين بإرادة الشعب صانعي الرؤساء في السابق سيكون يوم 12 ديسمبر/كانون الأول المقبل، حين ينتخب الشعب رئيسه ويستعيد سلطته".
جزء غالب من الجزائريين، خاصة المتضررين بشكل مباشر من الأزمة الأمنية في التسعينيات، كعائلات المفقودين والمعتقلين في محتشدات الصحراء والإسلاميين المتعاطفين مع الجبهة الإسلامية للإنقاذ وغيرهم، وجدوا في مجرد وجود قائدي جهاز المخابرات رهن السجن والمحاكمة بعض العزاء لهم مما لحقهم بفعل قرارات دامية للجنرالين توفيق وطرطاق في التسعينيات، وذلك في الوقت نفسه، خطوة من قبل المؤسسة العسكرية وقائد الجيش، الفريق أحمد قايد صالح، لاسترضاء جزء كبير وحيوي من الحراك الشعبي والانتصار له ضد الشخصيات التي كانت تتحكم في مصير الجزائريين خلال العقود الثلاثة الأخيرة، ومحاولة لإقناع الحراكيين بجدية مواقف الجيش وحزمه ضد الأطراف التي كانت ضد الموقف الشعبي، والسعي لدفع الجزائريين إلى الاقتناع بالمسار الانتخابي، خاصة أن هذا الحكم تزامن مع خطاب مهادن، أمس، وللمرة الأولى، لقائد الجيش إزاء الحراك.
لكن الحراك الشعبي لا يبدو مهتما بشكل كبير بهذه المحاكمة وبباقي الملاحقات القضائية التي تخض مسؤولين سابقين في حكومات بوتفليقة. ويعتبر الكثير من الناشطين أنه ومهما كان مآل تلك القضايا، فإن ذلك لا علاقة له بالمسار السياسي الذي يدعو إليه الحراك.
وبرأي الناشط البارز في الحراك عبد الوكيل بلام، فإن "الحراك جاء ليحرر العدالة من أي توجيه أو ضغط، ويمكّن القضاء من أن يقوم بعمله دون أن تكون لذلك علاقة بالمسار السياسي، لأن هذا النوع من المحاكمات سبق أن عرفته البلاد في ظروف مماثلة، لكن الغفلة عن ضرورة تعبيد المسار الديمقراطي جعلت الجزائر تعود في كل مرة إلى المنعطف نفسه".
ويدعم هذا الموقف أستاذ العلوم السياسية توفيق بوقاعدة، الذي يعتبر أن "الجزائريين مهتمون بالمسار السياسي لأنه وحده من يؤسس لدولة الحق والقانون، ويضمن المحاكمة العادلة للجميع ووفق القانون"، مضيفا أن بقاء المسار السياسي على ما هو عليه لن يغير موقف الحراك من الانتخابات، والمحاكمات والإدانات لن تغير التوجه الرافض لها، "لأن المحاكمة في النهاية هي ثمرة للحراك وليس للعسكر".
ويمكن القول، تبعا لذلك، إن الجيش، وقائد أركانه، لم ينجحا في توظيف المحاكمة لصالحهما في ظرف حرج، بشكل وضع الموقف العام من هذه المحاكمة على الهامش، وأنهى بسرعة صدى تأثيرها في تطورات سياسية زاخمة في الجزائر، في ظل تحول لافت في مؤشرات الرضا لدى الشارع الجزائري، وعودة زخم الحراك الشعبي.