وقرأ شاهد الاثبات إفادته بناءً على طلب ممثلي الادعاء، الذين وجدوا فيها وصفاً دقيقاً لوقائع المجزرة. وتوضح الإفادة أن الشاهد المشار إليه كان يعمل ساعي بريد عسكري مع وزارة الداخلية العراقية، وتصادف وجوده في ساحة الجريمة لتوزيع الرسائل، ما أدى إلى إصابته بشظايا طلقة نارية في الرأس. ولكن من حسن حظه أن الرصاصة لم تقض على حياته. ويأمل ممثلو الادعاء أن يساعد مضمون الإفادة في إقناع المحلفين بإدانة أربعة من المتهمين بارتكابها عام 2007، عندما كانوا في العراق ضمن عناصر حراسة تابعين لشركة "بلاك ووتر" الأمنية سيئة السمعة. ويحاكم المتهمون الأربعة حالياً أمام محكمة فيدرالية في واشنطن، كانت قد أخلت سبيل متهم خامس في القضية نفسها، بموجب اتفاق مع أعضاء الادعاء الذين يمثلون الحكومة الفيدرالية في قضايا كهذه.
ومن المفارقات أن الشاهد العراقي، جاسم محمد هاشم، لدى مثوله أمام المحكمة، الخميس الماضي، لم يتمكن من تذكر بعض الوقائع التي وردت في إفادته المكتوبة، كونه قد خضع قبل أشهر، لعملية جراحية في الرأس أثّرت على ذاكرته، الأمر الذي ضاعف من أهمية ما كتبه في وقت سابق تحسباً لظرف كهذا يُطلب فيه الإدلاء بشهادته.
لذلك، فإن المحامين الذين عينتهم وزارة العدل الأميركية، لتمثيل الحكومة الفيدرالية في المرافعات، قد وجهوا طلباً رسمياً (ينشره "العربي الجديد" ضمن وثائق من قاضي المحكمة رويس لامبرث) بالموافقة على إدراج إفادة هاشم الأصلية، وترجمتها ضمن وثائق القضية. وذلك لم يمنع من الاستماع إليه شفاهية، بل واستجوابه عن بعض الوقائع التي تذكّر بعضها وغابت عن ذهنه بعض الوقائع الأخرى.
ولم يكن هاشم هو الوحيد الآتي من العراق للإدلاء بشهادته ومواجهة المتهمين المشتبه بمسؤوليتهم عن إعاقته، وعن مقتل وجرح نحو 32 آخرين، بل كان من ضمن قائمة شهود يزيد عدد المدرجين فيها عن 40 عراقياً، بدأوا يتوافدون من بغداد إلى واشنطن، الواحد تلو الآخر، واستغرق إدلاء بعضهم بشهادته أكثر من ثلاثة أيام، وما زال هناك مَن ينتظر دوره. وربما ستكون هذه القضية من القضايا النادرة في الولايات المتحدة التي تحوي سجلاتها عدداً كبيراً من الأسماء العربية مثل هاشم، غادة، عطية، معين، توفيق، الجبوري، الجبري، ماجد، حسن، وعابد، إلى آخر القائمة الغريبة على مسامع القضاة والمحلفين الأميركيين، خصوصاً عندما يعتلي أصحابها منصات الشهود وليس في أقفاص المتهمين.
ومن المتوقع أن يؤدي العدد الكبير من الشهود دوراً مزدوجاً سلبياً وإيجابياً، وفقاً لقدرة كل من فريقي الدفاع والادعاء على استغلال الثغرات والتضارب بين أقوال الشهود، أو حتى التخبّط والتناقض الذي يظهر أحياناً في أقوال كل شاهد على حدة.
وفي هذا السياق، بدأ فريقا الدفاع والادعاء يتسابقان في تقديم الطلبات للقاضي لامبرت، لاستبعاد بعض الأدلة والقرائن وأقوال هذا الشاهد أو ذاك، تحت مبررات مختلفة، بحسب رؤية كل فريق لمدى الفائدة أو الضرر المتوقع من أقوال كل شاهد أو مجموعة من الشهود، على موقف موكله. ففي الوقت الذي طلبت فيه الحكومة الأميركية، كطرف مدّعٍ، استبعاد أقوال خبراء أو زملاء سابقين للمتهمين في شركة "بلاك ووتر"، التي غيّرت اسمها مراراً، لترسو اليوم على "أكاديميا"، لتقليل حجم أضرار جرائمها.
وعلم "العربي الجديد" أن هيئة الدفاع كان آخر طلب لها، الخميس الماضي، هو إعادة النظر في استبعاد أحد الشهود الأميركيين الذين سبق للمحكمة أن استثنته من الإدلاء بشهادته أمام هيئة المحلفين، بسبب ثغرات قانونية في شهادته، لم تتضح طبيعتها.
ويعوّل ممثلو الادعاء على الشهود العراقيين لإدانة المتهمين، في حين تترقب هيئة الدفاع ظهور تناقضات في شهاداتهم، على أمل استغلالها في تبرئة المتهمين من تهمة القتل العمد واعتبار مجزرة النسور "دفاعاً عن النفس".
ومن بين مَن أدلوا بشهاداتهم من العراقيين، شرطي سير عراقي يدعى سرحان دياب عبد المنعم، اعتبرت صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية أن شهادته كان لها وقع مؤثّر على هيئة المحلفين خلال وصفه تفاصيل المجزرة.
غير أن خبراء قانونيين أعربوا عن اعتقادهم بأن الشاهد العراقي، في الجلسة اللاحقة، قدّم خدمة لا تقدّر بثمن للمتهمين، عندما أشار إلى أنهم لم يكونوا البادئين في إطلاق النار، بل جاءت الطلقة الأولى من الاتجاه المقابل لموكب سيرهم.
ومع ذلك، ظهرت اتهامات في مواقع إخبارية أميركية بأن إحضار الشهود يتم بالتنسيق مع السلطات العراقية، بعدما جرى تلقينهم بما سيدلون به من شهادات.
وكان القاضي المكلف بالنظر في القضية، رويس لامبرت، أصدر توجيهات مشددة للمحلفين المحتملين، بعدم قراءة أو مشاهدة أي شيء يتعلق بالقضية من أي مصادر مكتوبة أو مرئية أو مسموعة.
كما حذرهم من كتابة أي انطباعات لهم عن سير المحاكمة على صفحاتهم في "تويتر" أو "فيسبوك" أو أي صفحات أخرى من وسائط التواصل الاجتماعي.
يشار إلى أن المتهمين الأربعة اعترفوا بإطلاقهم النار في "ساحة النسور"، وسط بغداد، عام 2007، عندما كانوا يرافقون دبلوماسيين أميركيين، فقتلوا 17 مدنياً على الأقل وجرحوا آخرين في مجزرة تسبّبت في فتح ملفات "بلاك ووتر"، التي لا تزال تمارس نشاطاتها.
ولا تزال شركة المرتزقة، التي تعمل تحت اسم "أكاديميا"، توظّف متعاقدين منحتهم الحكومة الاميركية حصانة من الملاحقة القضائية في العراق، الأمر الذي منع محاكمة أي من المتهمين أمام المحاكم العراقية، لكن ذلك لم يمنع من ملاحقة الشركة وموظفيها في محاكم أميركية. في المقابل، نجحت الشركة، في الماضي، في إسقاط العديد من القضايا عن موظفيها، اعتماداً على أخطاء قانونية ارتكبتها الجهات الحكومية المعنية بجمع الأدلة وتسجيل الإفادات.
وفي عام 2011، أعيد فتح التحقيق في القضية، وبدأ ممثلو الادعاء مراجعة لوائح الاتهام، وإعادة صياغة التهم التي وصلت إلى 33، تنظر فيها هيئة محلفين في واشنطن.
ويتوقع أن ينكر المتهمون كل التهم المنسوبة إليهم، مثلما فعلوا في السابق، ومن الصعب التنبؤ بما يمكن أن تسفر عنه القضية.
وتسمح المحاكم الفيدرالية الأميركية للصحافيين وعامة الناس، بحضور جلسات المحاكمة، ولكنها على عكس محاكم الولايات والمقاطعات المحلية، لا تسمح بدخول الكاميرات أو أجهزة التسجيل أو بث وقائع الجلسات بأي صورة من الصور، باستثناء الرسم اليدوي. وعوضاً عن تسجيل وتصوير الوقائع، تتيح الفرصة لمَن يرغب بالاطلاع على سجلات ومحاضر المحاكمات، وفي كثير من الحالات تنزع صفة السرية عن أي وثائق مطبوعة أو مواد سمعية وبصرية مخزّنة رقمياً، إذا ما استُخدمت كأدلة إثبات أو نفي أو حتى قرينة من القرائن أو ملاحق المحاكمة أو أشير إليها بأي صورة من الصور أثناء الجلسات.
ويدّعي المتهمون أنهم كانوا يدافعون عن موكبهم ضد هجوم شنه ضدهم عراقيون، وهو ادعاء أثبتت بطلانه ثلاثة تحقيقات منفصلة أجرتها كل من الحكومة العراقية ووزارة الدفاع الأميركية و"مكتب التحقيقات الفيدرالي" (إف بي آي).
ويواجه المتهمون في حال إدانتهم، أحكاماً بالسجن لن تتعدى 10 سنوات لكل تهمة قتل، وسبع سنوات سجن لكل محاولة قتل.
وتجري محاكمة هؤلاء على الأراضي الأميركية، لأنهم متعاقدون مع وزارة الدفاع الأميركية، وبالتالي يتمتعون بالحصانة ضد المحاكمة في العراق بموجب الاتفاقية الموقعة في عام 2003. وكانت هذه الحصانة، هي من النقاط الشائكة الرئيسية بين المفاوضين العراقيين والأميركيين، لكنها أقرت في النهاية بتكثيف المفاوضين الأميركيين من ضغوطهم على نظرائهم العراقيين.
للاطلاع على الوثائق (انقر هنا)