لا شك أن الطبقة السياسية التقليدية في تونس قد صُدمت بفوز كلٍّ من قيس سعيّد ونبيل القروي في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية، على الرغم من تواتر استطلاعات الرأي التي سبق أن أوردت منذ أشهر هذا الاحتمال. فاللاعبون الكبار كانوا منغمسين طيلة المرحلة السابقة في حالةٍ مفعمة بالثقة في النفس، متأكدين من البقاء في السلطة والانتصار في الانتخابات.
في مقدمة هؤلاء رئيس الحكومة يوسف الشاهد، الذي يُعتبر الخاسر الأكبر بعد زلزال نتائج الانتخابات. كانت حملة الشاهد فاشلة، ولم ترتق إلى مستوى طموحه العالي. لقد تبخر أمله في الوصول إلى قصر قرطاج، كما أنه سيضطر إلى مغادرة مقر الحكومة بعد انتهاء الماراثون الانتخابي، وسيفرض عليه السياق الجديد التفرغ لرئاسة حزبه "تحيا تونس" الذي لا يزال قيد التأسيس، والمهدد بهزة أخرى قد يتعرض لها في نهاية الانتخابات التشريعية، ما قد يحوله إلى حزب صغير بعدما ولد كبيراً بفضل وجود قيادته في السلطة.
وتواجه "النهضة" مشكلة أخرى أكثر تعقيداً، تتمثل في أن جزءاً من قواعدها وكوادرها لم يصوّت لمرشحها مورو، وهو ما دفع بالعديد من المسؤولين فيها إلى الاحتجاج. من بين هؤلاء وزير الفلاحة السابق محمد بن سالم، الذي أشار إلى حالة التلكؤ التي جعلت حملة مورو تتأخر، والخلاف الذي حصل في البداية حول مدير الحملة، ثم حالة الفتور التي صاحبت المبادرة. كان البعض يراهن على فشل مورو، وهو شكل من أشكال التمرد الذي سبق أن حصل في انتخابات 2014 عندما منحت بعض القواعد أصواتها للمنصف المرزوقي، في حين رجحت قيادتها خيار التصويت لصالح الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي. الفارق بين الأمس واليوم هو أن المرشح الذي تخلى عنه إخوانه هذه المرة هو مرشح باسم الحركة ومؤسس لها. وما جاء على لسان رئيس "النهضة" راشد الغنوشي عن أن سبب الهزيمة يعود إلى رفض المرزوقي وحمادي الجبالي وسيف الدين مخلوف الانسحاب من السباق وترك المجال لمورو، ربما يكون محاولة لتجاوز الخلافات الداخلية حول هذه المسألة.
أما الخاسر الثالث فهو وزير الدفاع عبد الكريم الزبيدي، الذي التف حوله من تفرقوا وغادروا حزب "نداء تونس"، والذين لم ينجح الشاهد في استقطابهم. كان الزبيدي بمثابة المحاولة الأخيرة لإنقاذ منظومة الحكم التي قامت بعد الثورة التونسية من الانهيار الكامل. فالإخوة الأعداء رفضوا الالتفاف حوله ولم يتنازلوا له رافضين الاستجابة للدعوات التي وُجّهت إليهم وحذرتهم من سوء العاقبة. هكذا تعددت الأسباب والعوامل التي أفضت بالزبيدي إلى احتلال المرتبة الرابعة، ما جعل المحاولة الأخيرة للحيلولة دون وقوع الزلزال تتهاوى.
أما رابع الخاسرين فهم ممثلو اليسار التونسي الذين اختلفوا وتبادلوا التهم، ولعن بعضهم بعضاً، ثم نزلوا الميدان الانتخابي متفرقين متنافسين، مع زعم كل من مرشحيهم بأنه سيسحق الآخرين وسينتظر منافسه عند الجولة الثانية، فإذا بالصندوق يصعق الجميع كاشفاً لهم حجمهم، إذ لم يتمكنوا من مغادرة منطقة الصفر فاصل، ما يشكل أكبر هزيمة يمنى بها اليسار التونسي في تاريخه الطويل.
يجد التونسيون أنفسهم بعد أكثر من ثماني سنوات من إطاحتهم بزين العابدين بن علي، يعودون إلى نقطة البداية. فقيس سعيّد والشباب الذين أيّدوه وساندوه، يرفعون شعار "الشعب يريد"، ويسعون نحو إعادة النظر في النظام السياسي، طارحين بعض الأسئلة المهمة، بدعمٍ في ذلك من قبل شرائح اجتماعية واسعة. في المقابل، يستند منافس قابع في السجن، على خطاب المظلومية، مراهناً على فئات منسية سبق له التواصل معها ومنحها بعض المساعدات.
قد يبدو المشهد أشبه بلوحة سوريالية، لكن الانتخابات التشريعية التونسية التي انطلقت أجواؤها أيضاً قد تزيد الحالة تعقيداً في حال أفضت أصوات التونسيين إلى انتخاب برلمان فسيفسائي يصعب التحكم فيه، ما من شأنه أن يجعل من الاستقرار الحكومي أمراً صعب المنال، إضافة إلى الخلافات الحادة المنتظرة بين البرلمان والحكومة من جهة، وبينه وبين رئيس الجمهورية من جهة ثانية، في حال انتخاب قيس سعيّد.