يشهد الشمال السوري فلتاناً أمنياً يعطي مجموعات مجهولة فرصة للقيام بعمليات اغتيال وتصفية وخطف، فيما تتجه أصابع الاتهام إلى العديد من الجهات صاحبة المصلحة في تعزيز هذا الفلتان، الذي من شأنه أن يدفع الأوضاع في منطقة مكتظة بالمهجرين من مقاتلين ومدنيين إلى المرحلة الأسوأ، فيما تؤكد مصادر محلية أن هناك أسبابا عدة وراء ما يجري في المنطقة التي تضم تنظيمات متشددة متهمة بالإرهاب.
اغتال مسلحون مجهولون يوم الجمعة الماضي، "الشرعي العام لقطاع ريف إدلب الجنوبي الشرقي"، التابع لـ"هيئة تحرير الشام"، المدعو "أبو إسلام" في مزارع بلدة الخوين بريف إدلب الشرقي، فيما أقدم مجهولون أيضاً على اغتيال شابين متحدرين من مدينة اللطامنة بريف حماة الشمالي، على طريق إدلب - معرتمصرين شمال المحافظة. وكان قتل يوم الخميس الماضي، القيادي أبو جاسم كنصفرة من فصيل "جند الملاحم" المتشدد، جراء انفجار عبوة ناسفة استهدفت سيارته على الطريق الواصل بين مدينة كفرنبل، وبلدة كنصفرة بريف إدلب الجنوبي. كما أعدمت "هيئة تحرير الشام" عنصرين قالت إنهما تابعان لتنظيم داعش بمدينة الدانا بريف إدلب الشمالي، كانت قد ألقت القبض عليهما قبل يومين وهما يزرعان العبوات الناسفة أمام بنك الدم في المدينة". وقالت مصادر إعلامية تابعة للمعارضة السورية إن "الهيئة التي تشكل جبهة النصرة ثقلها الرئيسي ألقت القبض على العشرات من خلايا التنظيم داخل المدينة وفي محيطها أخيراً أثناء الحملة الأمنية في المنطقة، بعد إعلام أهالي المدينة بعدم التجول والخروج من المنازل ساعات عدة من أجل إتمام عملية القبض على خلايا التنظيم".
وتشهد محافظة إدلب وهي أهم معاقل المعارضة السورية و"هيئة تحرير الشام" حالة انفلات أمني، في ظل انتشار عمليات التصفية والقتل من قبل خلايا مجهولة، لا تزال تمارس نشاطها في غالبية ريف المحافظة، فيما تبدو الفصائل المسيطرة على المحافظة عاجزة عن ضبط عمليات الاغتيال، وعبوات الموت التي تحصد أرواح مدنيين ومقاتلين.
ويقع النظام وتنظيم "داعش" دائماً في دائرة الاتهام من قبل فصائل المعارضة و"هيئة تحرير الشام" بالوقوف وراء عمليات الاغتيال والتصفية وتفجير السيارات المفخخة في محافظة إدلب وفي منطقة درع الفرات شمال شرقي حلب، الواقعة ضمن النفوذ التركي المباشر. وهناك العديد من الأسباب وراء أحداث شمال وشمال غربي سورية، مع تعزيز الفلتان الأمني الفرصة لعصابات محلية بالقيام بعمليات خطف من أجل الحصول على فدى من أهالي المخطوفين، ولكن هذه العمليات محدودة وفي نطاق ضيق، إذا ما قورنت بعمليات اغتيال قادة عسكريين تابعين لفصائل عدة.
كما سمح الفلتان الأمني بعمليات تصفية حسابات بين فصائل متعددة مختلفة في التوجه والهدف، حيث بات ريف إدلب تحديداً تحت سيطرة تيارات وهيئات عدة. وأعلن 11 فصيلاً عسكرياً معارضاً شمالي سورية، أخيراً الاندماج في تشكيل واحد تحت اسم "الجبهة الوطنية للتحرير" في محاولة لإحداث توازن عسكري مع "هيئة تحرير الشام" التي ما زالت مسيطرة على مدن وبلدات مهمة، خصوصاً مدينة إدلب مركز المحافظة. وإلى جانب هذين التشكيلين هناك "جبهة تحرير سورية" التي أعلن عن تشكيلها في فبراير/شباط الماضي في ريف إدلب، وضمّت حركتي "أحرار الشام"، و"نور الدين زنكي" وهما من أبرز فصائل المعارضة السورية في شمال غربي سورية. كما أن هناك تنظيماً غير بعيد بالتوجه عن "هيئة تحرير الشام" باسم "حراس الدين"، ضمّ بقايا فصيل "جند الأقصى"، وتنظيمات جهادية تابعة لتنظيم "القاعدة" ومنشقة عن "هيئة تحرير الشام".
وأشارت مصادر محلية إلى أن "تنظيم داعش يضرب في المناطق التي أجبر على الخروج منها من خلال خلايا نائمة تتبع له"، مؤكدة "وجود ذئاب منفردة تتبع للتنظيم أيضاً تقوم بعمليات اغتيال كلما سنحت لها فرصة". وأكدت المصادر "وجود تنظيمات تابعة لتنظيم القاعدة في شمال غربي سورية تحاول خلخلة الأمن في المنطقة لإثبات عدم قدرة هيئة تحرير الشام على ضبط المناطق التي تقع تحت سيطرتها"، مشيرة بحديث لـ "العربي الجديد" إلى أن "فصيل جند الأقصى ومجموعات انشقت عن هيئة تحرير الشام وبايعت أيمن الظواهري متزعم تنظيم القاعدة، تأتي في مقدمة الأطراف التي تحاول إشاعة الفوضى الأمنية في شمال غربي سورية". وأكدت المصادر أن "النظام غير بعيد عما يجري من خلال أزلامه والموالين له الذين ما زالوا موجودين، ويهدفون إلى ضرب الوضع الأمني ونشر الفوضى تمهيداً لعملية عسكرية يعود النظام من خلالها للسيطرة مجدداً على المنطقة".
من جانبه، رأى المحلل العسكري مصطفى البكور، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "ظاهرة الاغتيالات التي تزداد في محافظة إدلب تعتبر أمراً طبيعياً لحالة التشرذم التي تسيطر على الفصائل"، مضيفاً أن "النظام والروس أوضحوا في وقت سابق أن التعامل مع إدلب سيتم من خلال إثارة القلاقل الأمنية وخلق حالة من عدم الاستقرار الأمني في المحافظة، وصولاً إلى الاقتتال الفصائلي. الأمر الذي سيدفع المدنيين في إدلب إلى التفكير بشكل جدي بالعودة إلى الحظيرة الأسدية للتخلص من حالة الفلتان الأمني".
ومضى البكور في القول إن "كل ما ظهر ويظهر تباعاً من وقائع على الأرض يدلّ على أن النظام وخلاياه النائمة بين المدنيين وضمن الفصائل، هي من تقوم بعمليات الاغتيال والتفجير والتفخيخ والخطف، بهدف إثارة الفتنة بين الفصائل فيما بينها من جهة، وبين الفصائل والحاضنة الشعبية من جهة أخرى". واعتبر أن "تعدّد الأجهزة الامنية لفصائل المعارضة السورية، وعدم تعاونها مع بعضها في مكافحة ظاهرة الاغتيالات يجعل المجرمين يسرحون ويمرحون في الشوارع من دون أي محاسبة"، مشيراً إلى أن "بعضهم ينتمي إلى هذه الفصائل".
ولا يقتصر الفلتان الأمني على محافظة إدلب في شمال غربي سورية، بل ينسحب أيضاً على مناطق درع الفرات التي تشهد هي الأخرى عمليات اقتتال داخلي وانفجار مفخخات بين المدنيين. وأشار المرصد السوري لحقوق الإنسان، يوم الجمعة الماضي، إلى "خروج تظاهرات ضمت عشرات المدنيين من أبناء بلدة جرابلس وسكانها، شمال شرقي حلب، طالب خلالها المتظاهرون بخروج المقاتلين والفصائل من البلدة، والانتقال إلى ريفها، بعد تكرار عمليات التفجير التي تجري داخل البلدة وعمليات الاقتتال التي تجري بين فصائل عملية درع الفرات". وكان قُتل وأصيب مدنيون، يوم الخميس الماضي، بانفجار دراجة نارية مفخخة في وسط مدينة جرابلس السورية والواقعة على الحدود مع تركيا. وهو ما يعُدّ خرقاً أمنياً كبيراً في مدينة تضمّ عشرات آلاف المدنيين. وبدأت تطفو على السطح نتائج إصرار النظام وحلفائه الروس والإيرانيين على دفع كل فصائل المعارضة السورية والتنظيمات المتشددة إلى الشمال السوري، وهناك من المرجح أن يؤدي اختلاف الرؤى والأهداف بين هذه الفصائل والتنظيمات إلى تسخين الشمال.