بهدوء، وبعد بداية خافتة رسّخ خلالها موقعه في البيت الأبيض، بدأ مستشار الرئيس لشؤون الأمن القومي، جون بولتون، يتقدّم باتجاه احتلال موقع المهندس الأول في تحديد التوجهات والسياسات الخارجية، والعودة بها إلى دائرة التشدّد، حتى لو أدى ذلك إلى صدام. وانعكس ذلك في جولته الأخيرة، التي كانت سورية محورها، كما في محاولته أخيراً لحرف قطار الملف الكوري الشمالي عن سكة "المرونة".
وتعتبر الفرصة سانحة لبولتون، والظروف ملائمة لصعود دوره، إذ إن الرئيس دونالد ترامب غارق في مشاكله القانونية المتفاقمة، ووزير الخارجية، مايك بومبيو، يقتصر تركيزه على تطويق التوتر المتجدد مع بيونغ يانغ التي كان من المقرر أن يقوم بزيارتها، للمرة الرابعة، في الأسبوع المقبل، قبل أن يلغيها ترامب فجأة. كما أن الكونغرس غير معني خارجياً الآن بأكثر من ملف العلاقات المتأزمة مع موسكو، وهو على كل حال مشغول بالانتخابات النصفية في 6 نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، وبتطورات التحقيقات الروسية والمحاكمات المتفرعة عنها.
وأدى تجمُع هذه المعطيات إلى تعزيز وتوسيع دور بولتون في الحقل الخارجي، الذي يملك فيه من الخبرة ما يمكنه من التقدم على معظم الآخرين في فريق الأمن القومي، وبالتالي ترجيح كفة قناعاته الخارجية في التعاطي مع الأزمات والقضايا المطروحة، خصوصاً أنه يحظى بدعم ترامب، على الأقل حتى الآن. وزيارته الأخيرة إلى إسرائيل وعواصم أوروبية جاءت في هذا السياق، إذ إنه في العادة يقوم وزير الخارجية بمثل هذه المهمة، خصوصاً المتعلق منها بموضوع اتفاقيات الحد من الأسلحة النووية مع روسيا. وحتى موضوع الوجود الإيراني في سورية، الذي كان محور لقاءاته، فإن تكليف بولتون بالأمر بدلاً من بومبيو، انطوى على رسالة مزدوجة: أنه، بما يمثله من تشدّد، المحاور باسم الإدارة، وأن الليونة مع إيران، وفي سورية خصوصاً، غير واردة. وكان سبق أن تردد أن البيت الأبيض وافق على الصيغة التي طرحتها موسكو، التي تقضي بإقامة منطقة عازلة بعمق 80 كيلومتراً تفصل المليشيات المحسوبة على طهران عن حدود الجولان السوري المحتل ضماناً لأمن إسرائيل، خصوصاً أن هذا الترتيب جرى إعداده بالتنسيق مع تل أبيب. لكن بعد قمة هلسنكي بين ترامب والرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، رسا الجدل داخل الإدارة الأميركية على رفض هذه الصيغة، من باب أن التسليم بأي دور لإيران في سورية يتعارض مع التوجه لإجبارها على وقف تمددها في المنطقة والتراجع عنه، وهو الأمر الذي بررت الإدارة الأميركية من خلاله عودتها إلى تجديد العقوبات على طهران. وثمة من يرى أن كلام بولتون حول عدم القبول بأي وجود إيراني في سورية "قد يكون ضوءاً أخضر لإسرائيل كي توسع من دائرة ضرباتها للمواقع الإيرانية في سورية". احتمال قد يكون وراء توسّع الخلاف بين واشنطن وموسكو، بالإضافة إلى أن التباين حول قضايا أخرى قد يكون وراء فشل محادثات بولتون مع رئيس مجلس الأمن القومي الروسي، نيكولاي باتروشيف، في جنيف، إلى حدّ تعذر معه إصدار بيان مشترك بشأنها.
أما في الملف الكوري الشمالي، فإن بصمات بولتون في التأزيم، تبدو أوضح. فقبل أيام عارض فكرة إرسال كتاب من ترامب إلى الزعيم الكوري الشمالي، كيم جونغ أون، لترطيب الأجواء قبل وصول بومبيو إلى بيونغ يانغ. وفي النهاية كان له ما أراد، إذ ألغى ترامب الزيارة من دون سابق إنذار، بذريعة أن الزعيم الكوري الشمالي لن يلتقي بومبيو أثناء وجوده في بيونغ يانغ. موقف يتفق تماماً مع مقاربة بولتون، إن لم يكن هو من كان خلفه، فهو من الأساس غير متحمّس للخيار الدبلوماسي مع كيم جونغ أون. وبذلك تنفتح صفحة جديدة يمسك فيها بولتون بزمام الملفات الخارجية، أو في أقله يتحكم فيها، وإن كان من الصعب التكهن بمدى استمرار هذا الأمر، فذلك مرهون بتقلبات الرئيس التي تسير مع المتغيرات على الأرض. ويساعد الآن اعتماد نهج متصلّب في الخارج البيت الأبيض على سدّ زاوية، ولو صغيرة، من الانكشاف الداخلي المتزايد والمتسارع.