49 ضحية وعدداً من الجرحى سقطوا في مجزرة مسجد "النور" في كرايست تشرش ومسجد لينوود، فقط لأن الإرهابي تارانت، قرر أثناء البث أن "أرضنا لن تكون يوماً لمهاجرين. وهذا الوطن الذي كان للرجال البيض سيظل كذلك ولن يستطيعوا يوماً استبدال شعبنا". وادّعى أن "ارتكاب المذبحة جاء لأنتقم لمئات آلاف القتلى، الذين سقطوا بسبب الغزاة في الأراضي الأوروبية على مدى التاريخ. ولأنتقم لآلاف المستعبدين من الأوروبيين، الذين أخذوا من أراضيهم ليستعبدهم المسلمون". وتكلّم تارانت عن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي اعتبره "رمزاً للهوية البيضاء المتجددة والهدف المشترك".
وكتب تارانت عبارات عنصرية على سلاحه هاجم فيها الدولة العثمانية والأتراك. ومن بين العبارات العنصرية التي كتبها عبارة "التركي الفج"، وكذلك "1683 فيينا"، في إشارة إلى تاريخ معركة فيينا التي خسرتها الدولة العثمانية، ووضعت حداً لتوسعها في أوروبا. أيضاً، كتب تارانت على سلاحه الذي نفذ به المذبحة، تاريخ "1571"، في إشارة واضحة إلى "معركة ليبانتو" البحرية التي خسرتها الدولة العثمانية أيضاً. وكتب على سلاحه: "اللاجئون، أهلاً بكم في الجحيم". كذلك، لعبت الموسيقى الخلفية في الفيديو الذي بثّه السفاح، دوراً في إظهار نياته العدوانية ودوافعه العنصرية. وبثّ أغنية باللغة الصربية تشير إلى رادوفان كاراديتش، الملقب بـ"سفاح البوسنة"، وهو سياسي صربي مدان بجرائم عديدة، بينها "ارتكاب إبادة جماعية" و"ارتكاب جرائم ضد الإنسانية" و"انتهاك قوانين الحرب"، ضد المسلمين إبان حرب البوسنة (1992-1995). وتقول كلمات الأغنية: "الذئاب في طريقهم من كراجينا (في إشارة إلى ما كانت تُعرف بجمهورية كراجينا الصربية التي أعلنها الصرب عام 1991). الفاشيون والأتراك: احترسوا. كراديتش يقود الصرب". كما ذكر تارانت أنه "يسعى لدق إسفين بين أعضاء حلف الأطلسي الأوروبيين وتركيا، بهدف إعادتها إلى مكانتها الطبيعية كقوة غريبة ومعادية".
يقول تارانت إنه "استوحى هجومه من بريفيك"، وذكر على وجه التحديد بريفيك بالاسم، مدعياً أنه "كان لديه اتصال قصير مع إرهابي متطرف، وأطلعه على الملف (مانيفستو)". وقال إن "جريمته هذه تأتي أيضاً انتقاماً لهجوم بالسويد في إبريل/ نيسان 2017 وأودى بحياة فتاة صغيرة من بين ضحاياه". و"قرر" تارانت أن "يستيقظ" أثناء سفره في أوروبا، مشيراً إلى أنه "كانت هذه هجمات على شعبي، وهجمات على ثقافتي، وهجمات على إيماني، وهجمات على روحي، وهي هجمات لن يتم تجاهلها".
ووصف الجلوس في سيارة، وهو يشاهد من وصفهم بـ"الغزاة" يدخلون مراكز التسوق ويفوق عددهم (حسب رأيه) الشعب الفرنسي المحلي، بأنه "شعور زاد من الكراهية"، وهو ما أدى لتحوله إلى شخص خطير. وتماشياً مع رسالة جميع المتعصبين البيض، قال تارانت إنه "لا يكره المسلمين الذين يعيشون في أوطانهم، بل أولئك الذين يعيشون على أرضنا". ولم يحدد أنه أسترالي رغم أن ولادته هناك، بل كتب: "أصول لغتي أوروبية وثقافتي أوروبية ومعتقداتي السياسية أوروبية ومعتقداتي الفلسفية أوروبية وهويتي أوروبية، والأهم من ذلك أن دمي أوروبي". وأضاف: "أستراليا هي مستعمرة أوروبية، تحديداً بريطانية". ووصف تارانت نفسه بأنه "فاشي إيكولوجي قومي عرقي"، بعدما عرف سابقاً بأنه "شيوعي وأناركي". وكتب: "أؤمن بالحكم الذاتي العرقي لجميع الشعوب مع التركيز على الحفاظ على الطبيعة والنظام الطبيعي".
تارانت نشأ في غرافتون، وهي بلدة صغيرة بشمال نيو ساوث ويلز في أستراليا، والتحق بمدرسة ثانوية محلية، ثم عمل مدرباً شخصياً في مركز للإسكواش واللياقة البدنية عام 2010. وقالت امرأة تعرف تارانت من صالة للألعاب الرياضية، إنه "كان يتبع نظاماً غذائياً صارماً وكان يكرّس جلّ وقته للتمرين وتدريب الآخرين". وأضافت أنها لم تتحدث إليه أو تسمعه يتحدث عن معتقداته السياسية أو الدينية، ولم يبد لها رجلاً له أي اهتمام بوجهات النظر المتطرفة.
يبدو كل ذلك وكأن العالم "يتطوّر" في مسار خلفي، بعد قرون من الثورة الصناعية ونحو 70 عقداً على شرعة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، وبعد نحو 3 عقود على تطوّر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي. التطور العكسي الذي يشهده العالم، مدفوع بنظرة يمينية استعلائية اعتيادية، مفادها أن "التنوّع شرّ لا بدّ منه"، بدلاً من تحويله أداة لتطوير الشعوب في سياق الاستغلال الإيجابي لمفهوم التنوّع.
ولا يُمكن إطلاقاً في هذا السياق، إبعاد تطورات السنوات الأخيرة، وخصوصاً رئاسة ترامب في الولايات المتحدة، واعتباره "حامياً للبيض"، تحديداً بعد سلسلة قرارات منع فيها وصول مواطنين من دول إسلامية، ولا في تطور النزعة اليمينية في أوروباً، تحديداً في بولندا وألمانيا والسويد والنرويج والدنمارك وإيطاليا والنمسا وفرنسا، ولا في ازدياد حملات الكراهية و"كره الأجانب" في أنحاء شتى من الغرب. واعتبرت صحيفة "بيرث ناو" الأسترالية أن "تارانت أراد أكثر من أي شيء آخر، تحويل عالمه إلى اللون الأبيض. ليس العالم بأسره، بل العالم الذي يتردد عليه تارانت، مثل العديد من أصحاب التفوّق الأبيض".
برأي الصحيفة، فإن "تارانت ليس شاباً يحاول حل مشكلة محلية. بعيداً عن ذلك، فإن وهمه عظيم لدرجة أنه يرى نفسه يغير العالم. وللأسف، فقد حوّل مدينة نيوزيلندية صغيرة وسلمية إلى مدينة ضربها الإرهاب". ويبدو أن الوضع فعلاً مقلق، في أستراليا أقله، إذ كشفت "بيرث ناو" أنه "غالباً ما تُسمع لغة تارانت كتابةً بين الشباب الذين يجتمعون في مجموعات في عطلات نهاية الأسبوع في جميع أنحاء أستراليا، لإجراء مناقشات مكثفة حول انهيار المجتمع الغربي على حساب الغزاة المسلمين المفترضين، الذين ينتجون الكثير من الأطفال ويغرقوننا". وأضافت أن "هؤلاء الشباب، مثل تارانت، لديهم معرفة مفصّلة بالسياسة وحروب العالم. تتحول المعرفة سريعاً إلى قيود صارمة من الكراهية، إذ يُنظر إلى أي شخص يعارضه على أنه ضعيف ومنفصل".
وكشف الكاتب بول كوهي، أن "هناك مجموعات من هؤلاء بدوا يائسين من أن الأستراليين كانوا يجهلون الغزو في وسطهم. ويلومون الأستراليين بأنهم غير مبالين، ويظهرون اهتمامهم فقط بحقوق الحيوان، والبيئة وفرض الضرائب". وذكر الكاتب مايكل كوزيول في صحيفة "بريزباين تايمز" الأسترالية، أن "تارانت أشار إلى اغتصاب عصابة بلال سكاف (اللبنانية الأصول) في سيدني عام 2000 لسيدات أستراليات". لكن بيانه أشار إلى أنه "كان منشغلاً بالاغتصاب الذي حدث في إنكلترا وألمانيا من قبل غير الأوروبيين". المخيف أكثر أن تارانت لم يعد مجرد اسم عابر لمجزرة ستُعالج ذيولها بالإدانات والاستنكارات والدعوات إلى التهدئة ومواجهة العنصرية والتطرف، بل قد يُشرّع الأبواب أمام أسوأ التوترات في العالم، على أوسع مساحة ممكنة، من أقصى شمال الكرة الأرضية إلى أقصى جنوبها. وعلى حسابه في "تويتر" غرّد تارانت قائلاً: "إن صدمة ما بعد أفعالي سيكون لها تداعياتها في السنوات المقبلة، وعلى الخطاب السياسي والاجتماعي وستخلق جواً من الخوف والتغيير، وهو المطلوب".