وأمس، رفع المتظاهرون شعارات داعية إلى التغيير الجذري، واقتلاع جذور النظام وإحالة رموزه إلى العدالة. وقد نجح الحراك الشعبي في الضغط من أجل اعتقال أو ملاحقة عدد من رجال الأعمال البارزين، المحسوبين على محيط بوتفليقة أو قائد جهاز المخابرات السابق الفريق محمد مدين، كزعيم الكارتل المالي علي حداد وأغنى أثرياء الجزائر يسعد ربراب، بالإضافة إلى كبار المسؤولين، بينهم رئيس الحكومة السابق أحمد أويحيى ووزير المالية الحالي محمد لوكال ووزير الطاقة السابق شكيب خليل ووزير الأشغال العامة السابق عمار غول، ووزيرا التضامن السابقان، سعيد بركات وجمال ولد عباس.
على الرغم من ذلك، اعتبر الحراك أن بقاء رئيس الحكومة نور الدين بدوي ووزيرة الاتصالات هدى فرعون، ورئيس الدولة عبد القادر بن صالح في واجهة الحكم والحكومة، واستمرار الأمين العام للرئاسة حبة العقبي، كاتب البيانات والرسائل الرئاسية التي كانت تنسب إلى بوتفليقة، بمثابة إشارة إلى استمرار مجموعة بوتفليقة في الحكم وعدم وجود تغيير جدّي.
في السياق، أكد الناشط في الحراك الشعبي عبد الوكيل بلام، في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أن "مجرد بقاء بدوي، وحبة العقبي، وهو أكثر شخصيات ما وراء الستار في مناصب الحكم، يعني أن بوتفليقة ما زال موجوداً"، مضيفاً أن "الشعب لن يذهب إلى انتخابات 4 يوليو/ تموز (الانتخابات الرئاسية) التي ينظمها بدوي وبن صالح. لا يمكن القبول باستمرارهما في الحكم، الشعب يعتبر ذلك استفزازاً له وعلى الجيش الذي نتفهم مواقفه أن يفهم هذا الموقف الشعبي".
في ظلّ هذه الوقائع، بات الوضع الجزائري قائماً على تجاذب أربع قوى فاعلة، بغية إقرار خيارات سياسية تتجه إليها البلاد في الأسابيع القليلة المقبلة، وهي مجموعة بوتفليقة التي تحاول المقاومة والخروج من مأزق ما بعد تنحي الرئيس بأقل الخسائر، وقوى الحراك الشعبي التي ما زالت تتمترس بالشارع وتستقوي بالملايين التي تخرج كل يوم جمعة وبالحراك الطلابي الفاعل، وتصرّ على مطالب رحيل رموز نظام بوتفليقة، والجيش الذي اتخذ من كل ثلاثاء يوماً محدداً لطرح مواقف وبيانات من قبل قائد الأركان الفريق أحمد قايد صالح، وقوى المعارضة التي تتلقف شعارات الشارع وتحوّلها إلى لائحة مطالب تتجاوز الإطار الدستوري، وتتمركز حول إنشاء مجلس رئاسي يضم شخصيات نزيهة متوافقاً عليها، وحكومة كفاءات تدير المرحلة الانتقالية، وتشكيل هيئة مستقلة تشرف بالكامل على الانتخابات.
لكن الجيش الجزائري لا يبدو مستعجلاً في حسم الموقف لصالح خيار الحل السياسي، وإن كان قائد أركان الجيش أحمد قايد صالح قد أعلن يوم الأربعاء الماضي، قبوله مقترحات لحلول ممكنة للأزمة الراهنة. ويقوم بدل ذلك بعملية مسح شامل للمحيط وتطهير للأرضية والمناخ السياسي، عبر دفع العدالة إلى توقيف وملاحقة عدد من رجال الأعمال والمسؤولين البارزين في النظام السابق، الذين كانوا يشكلون العصب الحيّ للنظام. وأبدى مراقبون اعتقادهم بأن "التقدير السياسي لقيادة الجيش خلص إلى تمحور الأولوية الرئيسية حول تطهير كل ما له علاقة بالمشهد السياسي، بهدف تأمين المرحلة المقبلة من أي مخاطر أو قلاقل، قد يتسبب فيها الكارتل المالي والدولة العميقة واللوبي الإداري المرتبط به، وضمان أن إسقاط آخر حكومة لبوتفليقة ما زالت تدير الشأن العام، لن تشوبه أي عوائق وتوترات مختلقة".
بالتالي، تصبح السيناريوهات المطروحة في المشهد الجزائري ثلاثة؛ الأول يلغيه الموقف الأخير للجيش الذي يتضمن قبول حل سياسي في الأفق القريب. ما يعني أن سيناريو المضيّ إلى خيار الانتخابات الرئاسية المقررة في الرابع من يوليو المقبل بات في حكم المنتهي، على خلفية أنه يشكل مأزقاً لا حلاً، بسبب عدم توفر أي ظروف لتنظيم الانتخابات في موعدها، من حيث رفض القوى والشخصيات السياسية الترشح، فضلاً عن فشل مشاورات الرئاسة، بشأن إنشاء هيئة مستقلة تشرف على الانتخابات، والرفض الشعبي الذي لن يسمح بعقد أي تجمعات انتخابية أو فتح مكاتب الاقتراع في يوليو المقبل. وهو ما فهمته الرئاسة التي أعلنت الإثنين الماضي، أنها "تفكر جدياً في إرجاء الانتخابات".
لكن إرجاء الانتخابات يفتح الباب أمام فراغ دستوري واضح كسيناريو ثانٍ، إذ لن يكون في إمكان بن صالح (بافتراض صموده حتى يوليو المقبل) البقاء في منصبه بعد التاسع من يوليو، إذ يحدد الدستور فترته الرئاسية بـ90 يوماً فقط. ما يعني نقل السلطة آلياً إلى قيادة الجيش والمجلس الأعلى للأمن. وهو ما رفضه بشكل مبكر قائد الجيش الفريق أحمد قايد صالح، الذي حذّر من وضع البلاد في حالة فراغ دستوري.
وأبدى المحلل عبد السلام عليلي في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، اعتقاده بأن "الجيش متخوف من فراغ دستوري، ومن مطلب الفترة الانتقالية التي تطرحها المعارضة، وخصوصاً على صعيد الخوف من عدم توفير المعارضة لتوافقات واضحة على شخصيات وأجندة زمنية محددة". ولفت إلى أن "المؤسسة العسكرية تفكر بشكل استباقي للتصدي للمشاكل قبل وقوعها".
غير أن مجموع معطيات راهنة كهذه، إضافة إلى موقف الجيش الذي أعلن قبوله أي حلول سياسية ممكنة، يدفع إلى سيناريو ثالث، تؤدي فيه قوى المعارضة الدور الأبرز، إذ تلقفت المعارضة هذه التفاصيل وبدأت في الإعداد لصياغة خطة انتقالية خلال مؤتمر وطني أعلنته الخميس، على أن يعقد في وقت قريب، ويجمع كل مكونات المعارضة السياسية والمدنية، والمجموعات المستقلة والنقابات وممثلي الحراك الشعبي والشخصيات الوطنية، بما يوفر للمقترح الذي سيطرح بعد المؤتمر غطاءً سياسياً وشعبياً يتيح للجيش تبنيه. وهو السيناريو الأقرب لتفكيك تعقيدات الواقع السياسي في الجزائر. وتطرح المعارضة في السياق (استناداً إلى المادة السابعة من الدستور التي تنصّ على تطبيق الإرادة الشعبية)، فكرة تشكيل مجلس رئاسي وحكومة مستقلة، بدأت اتصالات بشأنها مع عدد من الشخصيات المتوافق عليها في الجزائر لقيادتها، كرئيس الحكومة الأسبق مولود حمروش، ووزير الخارجية السابق أحمد طالب الإبراهيمي، والناشط في الحراك الشعبي مصطفى بوشاشي ووزير الاتصال السابق عبد العزيز رحابي، وبدرجة أقل الرئيس السابق ليامين زروال.