ما تكشفه تسريبات "نيويورك تايمز"، عن كيفية إدارة المشهد الصحافي في مصر، ليس سوى رأس جبل جليد، لحالة عربية أوسع من مجرد بضعة "إعلاميين". بكل الأحوال، ورغم سيل الاتهامات عن "تآمر" الإعلام العالمي، فإن إشارات الاستفهام التاريخية حول دور "السلطة الرابعة" في عالمنا العربي تعود مجدداً، أبعد من هذه وتلك من العواصم. انتباه هذه الأنظمة المبكر لأهمية دور الوعي، كمدخل لطرح الأسئلة عن وقائع تغييب أبسط الحريات والحاجات في المجتمعات، جعلها في ما يبدو، وليس الأمر طارئاً، تندفع نحو انتداب ضباط أمن لتسيير طوابير مزيفي الوعي في مراحل "الثورات المضادة".
يبدو من الصحيح اليوم، السؤال عن هدف كثافة ظهور هذا وذاك على شاشات القاهرة وغيرها، لتسويق روايات مختلفة، دينية وثقافية وسياسية ومجتمعية، بالتركيز على التشكيك بالمقصود بـ"القدس" تارة، وبأولويات العرب في أخرى. كأن مشهد الأزمات العربية منتهٍ، فلم يعد سوى مناقشة فضائل "التصهين" مرة، وبكل ما احتوته التسريبات الأخيرة، سواء بما يتعلق بكيفية تسويق "صفقة القرن"، وطريقة الحكم واختراع أعداء جدد للعرب في كتاب "نار وغضب" عن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، أو بما استلزم بتكثيف الجهد التزويري لإقناع الناس، على المنوال ذاته الذي أتى عليه "الضابط أشرف". القضية المرتبطة بالسياسة، ومحاولات خلق حالة استسلام، فلسطيني وعربي، باسم "الواقعية السياسية"، أو بما يصفونه بـ"أمر واقع في القدس"، ليست هي فحسب ما تعكسه مخاطر تحكم مافيا انقلابية، أو توريثية، بحثاً عن الشرعية في الغرب، بل أيضاً بكل ما تعكسه مخاطر أن تبقى هذه النخب هي التي تقرر مصائر العرب.
الأدهى، على الجانب الإعلامي، وهو ما يجب أن يُعترف به، أن "السلطة الرابعة"، بلسان عربي، في ظل هكذا نخب مفروضة، بكل مستوياتها، من الفني إلى الثقافي فالسياسي، وما بينها، تستطيع أن تستغل ركاكة وتفكك "المعارضات" المنشغلة بهوامش بعيدة عن جوهر دورها. ويبقى أيضاً لانفضاح المشهد، بما يحمله من تفكيك لخريطة عمل الاستبداد لتغييب الوعي والتجييش الإلكتروني، بارقة أمل لدى من يحترم بالفعل حرية الإعلام، ودوره الحقيقي، بمهنية غير مزورة، أن يمسك باللحظة التاريخية ليكشف مرة وللأبد ما تحت رأس جبل الجليد العربي، قبل أن يسحق ما تبقى من أدوات الوعي. وإذا كان الحاكم، المدعي للسيادة والاستقلال، يستطيع تسويق بيع جزيرة أو بلد بعنوان "أشباه دولة"، فإن مكانة القدس وفلسطين يمكن، ولا بد، أن تشكل مدخلاً للكشف عن "أراجوزات" عربية تسمى "نخباً"، سياسة وإعلاماً وثقافة... والآن، أكثر من أي وقت مضى ينكشف مقصد "الثورات المضادة" في مشهد استهداف الربيع العربي.