الجيش الجزائري في قلب رئاسيات 2019: استدعاء لتوافقات سابقة

20 يوليو 2018
طالب بوتفليقة سابقاً بإبعاد الجيش عن المناوشات السياسية(العربي الجديد)
+ الخط -
تعيش الجزائر على وقع جدل جديد سبّبته دعوات موجّهة للجيش الجزائري إلى لعب دور سياسي، وذلك عشية بدء القوى السياسية ترتيباتها لاستشراف مرحلة الانتخابات الرئاسية المقبلة المقررة ربيع العام 2019. وفيما لم ترد المؤسسة العسكرية بعد على هذه الدعوات، فإن أحزاب السلطة سارعت إلى التصدي لذلك وطالبت بإبعاد الجيش عن السجال السياسي.

ولم يكد رئيس حركة "مجتمع السلم" عبد الرزاق مقري ينهي ندوته السياسية التي دعا فيها الجيش إلى المشاركة في صياغة توافق سياسي لرسم حدود مرحلة انتقالية مقبلة في البلاد، حتى توالت الردود السياسية والمدنية، بين رافض لفكرة استدعاء الجيش وتوريطه في لعبة سياسية ما لبثت الجزائر أن تخلصت من كثير من تداعيات عقود من حكم العسكر وتضخم الجهاز الأمني التابع للمؤسسة العسكرية، الاستخبارات، وبين داعم للفكرة على أساس مركزية المؤسسة العسكرية في المشهد العام في البلاد ومسؤولية الجيش في المآلات التي انتهت إليها أوضاع الانسداد المؤسساتي والاقتصادي والاجتماعي والسياسي. ويرتبط ذلك بغموض سيناريوهات الانتخابات الرئاسية المقبلة بعد ثمانية أشهر، وفي استدعاء واضح لتجربة ندوة التوافق الوطني عام 1994، والتي أشرف عليها الجيش وأسهمت في تحقيق توافق سياسي ومرحلة انتقالية بسنة واحدة وإصلاح الخلل الدستوري في شرعية السلطة ورئيس الجمهورية عبر العودة عام 1995 إلى المسار الانتخابي، بعد توقيفه من قبل الجيش في انقلاب يناير/كانون الثاني 1992.

لم ترد السلطة السياسية في الجزائر رسمياً على التطور المتصل بدعوة الجيش إلى مشاركة القوى السياسية في صياغة توافق وطني، لكنها ردت عبر جهازها السياسي الأول، حزب "جبهة التحرير الوطني"، الذي أكد أمينه العام جمال ولد عباس، أن "للجيش مهام واضحة كل الوضوح بحكم الدستور وتتمثّل في حماية البلاد، وعليه فهو لن يتدخل في الحياة السياسية للبلاد وقائد أركان الجيش الفريق أحمد قايد صالح أكد ذلك مراراً". وأضاف ولد عباس: "اتركوا الجيش في الثكنة ودعوه يقوم بمهامه الموكلة إليه، ولا أعرف ما العلاقة بين الدعوة للانتقال الديمقراطي وبين دعوة مؤسسة الجيش إلى التدخل".

لكن "إخوان" الجزائر الذين أطلقوا الجدل الأخير، وشعروا بتأويلات خطيرة لهذه الدعوة، سارعوا إلى محاولة توضيح الموقف وشرح أبعاد دعوتهم للمؤسسة العسكرية والجيش إلى المشاركة في صياغة توافق سياسي. وقال القيادي في حركة "مجتمع السلم" نصر الدين حمدادوش، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إن الحركة لم تدعُ الجيش إلى إحداث انقلاب عسكري في البلاد أو الإمساك بالسلطة، موضحاً أن "دعوة المؤسسة العسكرية للمساهمة في الانتقال الديمقراطي، لدعم وحماية الحل التوافقي والوصول إلى الوضع الديمقراطي وفك الانسداد السياسي في البلاد، وتختلف عن الدعوة إلى تدخلها في الحياة السياسية بشكلٍ مباشر أو انفرادي أو فوقي في الحالات الطبيعية والديمقراطية والانفراد بالقرار السياسي أو فرض الخيارات الفوقية التسلطية لها". وأضاف: "صحيح أن تدخل الجيوش في الحياة السياسية بوجه عام يتنافى مع الديمقراطية، إلا أنّ ذلك لا ينطبق على دعوتنا للجيش إلى المساهمة في الانتقال من الوضع غير الديمقراطي إلى الحل الجماعي التوافقي من أجل الوصول إلى الوضع الديمقراطي".

وبرر القيادي في "مجتمع السلم" هذه الدعوة بكون "المؤسسة العسكرية في الجزائر كانت الفاعل الرئيس في مجمل المحطات المفصلية التي شهدتها البلاد وليس من الحكمة الزعم بعدم إشراكها في صياغة المرحلة المقبلة"، مضيفاً: "ما يجب الانتباه إليه في الحالة الجزائرية، منذ تشكيل النواة الصلبة للنظام خلال ثورة التحرير، والمحطات الرئاسية التاريخية الحاسمة في تاريخ البلاد، هو البصمة العسكرية للجيش فيها، ابتداءً من حسم الصراع على الحكم في صيف 1962، والانقلاب العسكري على الرئيس أحمد بن بلة سنة 1965، ووصول الرئيس الشاذلي بن جديد إلى الرئاسة بعد وفاة الرئيس هواري بومدين سنة 1979، وإلغاء المسار الانتخابي سنة 1992، والمجيء بالرئيس عبدالعزيز بوتفليقة من قِبل الجنرالات عام 1999".

إضافة إلى "إخوان" الجزائر، يُقر الكثير من الأقطاب السياسية الفاعلة في الجزائر، وبما يرقى إلى حالة إجماع، بأن مشاركة الجيش في أي رسم للمستقبل السياسي للبلاد أكثر من ضرورة، بفعل رمزية المؤسسة العسكرية من جهة، ومسؤوليتها السياسية في وصول البلاد إلى الوضع الحالي من جهة ثانية. فقد كان رئيس الحكومة الأسبق مولود حمروش، وأحد أبرز منافسي بوتفليقة في انتخابات عام 1999، قد أكد في ندوات سياسية سابقة، أنه لا يمكن إنجاز أي حل أو توافقات سياسية في الجزائر من دون إشراك الجيش، بل إنه أعلن أنه لن يتقدّم إلى المجال الرئاسي من دون وجود ضمانة من الجيش. وفي نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، طالبت شخصيات سياسية معروفة، هي وزير الخارجية الأسبق طالب الإبراهيمي، والجنرال المتقاعد رشيد بن يلس، والناشط الحقوقي علي يحيى عبد النور، الجيش باتخاذ موقف إيجابي تجاه مبادرات التغيير السياسي التي تطرحها قوى المعارضة. وأصدرت هذه الشخصيات بياناً جاء فيه "في ما يتعلق بالجيش الذي يظل المؤسسة الأقل انتقاداً، فإن أقل ما يمكن أن تقوم به، إذا تعذر عليها مرافقة التغيير الحتمي والمشاركة في بناء جمهورية تكون بحق ديمقراطية، هو أن تنأى بنفسها بوضوح لا يقبل الشك عن المجموعة التي استولت على السلطة بغير حق، والتي تريد التمسك بها بإيهام الرأي العام بأنها تحظى بدعم المؤسسة العسكرية".


اللافت أن الدعوات الموجّهة إلى الجيش للقيام بدور سياسي بشكل أو بآخر، تأتي من الإسلاميين كما من الديمقراطيين ومن التقدميين والمحافظين أيضاً. وفسر أستاذ العلوم السياسية في جامعة باتنة، يوسف بن يزة، في تصريح لـ"العربي الجديد"، وجود حالة إجماع لدى معظم التيارات السياسية في البلاد بمختلف توجهاتها حول ضرورة دور الجيش، بوجود قناعة أن المؤسسة العسكرية قادرة على معالجة الأوضاع، قائلاً "ينبغي البحث في خلفيات المنادين بعودة الجيش للتدخل في السياسة، فمن المفارقات أن هذا المطلب انتقل من اليمين إلى اليسار واجتمع حوله الديمقراطيون والإسلاميون". واعتبر أن "حالة الاحتباس السياسي التي تعيشها البلاد جعلت هؤلاء يعتقدون بأن الجيش وحده فقط من يستطيع تحريك المياه الراكدة في المستنقع السياسي الذي تسبح فيه كيانات حزبية فاقدة لكل أدوات العمل وعاجزة عن أي فعل، ولذلك تحاول توريط الجيش مجدداً في الساحة السياسية على الرغم من أنها بنت كل أطروحاتها طوال السنوات الماضية على إدانة ما حدث في بداية التسعينات، حين تدخل الجيش في عمق المشهد السياسي، وعلى الرغم من اقتناعها بأن مؤسسة الجيش انبرت نهائياً إلى مهامها الدستورية وبلغت مرحلة متقدمة من التعفف عن ممارسة السياسة ولديها ما يشغلها من تهديدات أمنية تحيط بالجزائر".

ورأى بن يزة أن المطالبة السياسية للجيش بالتدخل، والمتزامنة مع المواعيد الانتخابية الهامة، "ترتبط أيضاً برهانات الحكم، إذ هي استغاثة سياسية لأحزاب لا تؤمن بالعملية الانتخابية ولا بالديمقراطية بقدر ما تبحث عن نصيب في كعكة الحكم في إطار التفاهمات التي تُعقد عادة برعاية الجيوش، ولذلك كان مطلبها ضمان الانتقال الديمقراطي، بمعنى إزاحة سلطة قائمة من دون المرور بالآلية الديمقراطية المعروفة، وهذا يعني أنها تدعو إلى الانقلاب في حين كان عليها أن تطالب فقط بضمان نزاهة الانتخابات وتعمل على الوصول إلى السلطة بالطريقة السلمية والسليمة". وأشار إلى أن ذلك "تعبير عن حالة إفلاس سياسي تام وعجز مزمن، فالأحزاب عندما تبتعد عن الشعب تصبح مجرد أبواق تصدر ما يمكن تسميته ضجيجاً موسمياً".

في الغالب لا يتوانى الجيش الجزائري عن الرد على دعوات سياسية كهذه، كما حدث في الجدل نفسه شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، حين أعلن الجيش توبته السياسية عن الانقلابات وعن أي دور سياسي أو تنظيم مراحل انتقالية. وجاء رده على لسان القائد الأعلى للقوات المسلحة، رئيس البلاد عبدالعزيز بوتفليقة، الذي طالب في نهاية أكتوبر الماضي بإبعاد الجيش عن المناوشات السياسية، وأكد أنه "قد ولّى عهد المراحل الانتقالية في الجزائر التي ضحى عشرات الآلاف من شهداء الواجب الوطني من أجل إنقاذ مؤسساتها السياسية، وبات الوصول إلى السلطة من الآن فصاعداً يتم عبر المواعيد المنصوص عليها في الدستور ومن خلال سيادة الشعب التي يفوّضها عن طريق الانتخاب". كما أصدرت قيادة أركان الجيش وفي الفترة نفسها بيانات حادة تجاه شخصيات سياسية، بينها الإبراهيمي وعبد النور وبن يلس، ووزير التجارة السابق نور الدين بوكروح، وحزب "جيل جديد" وحزب "طلائع الحريات" الذي يقوده رئيس الحكومة الأسبق علي بن فليس، والذين طالبوا حينها الجيش بالتدخل لإنقاذ البلاد من الوضع الراهن بسبب حكم بوتفليقة ومرضه.

وفي هذا السياق، أكد العقيد المتقاعد من الجيش، رمضان حملات، أن "الإصلاحات التي عرفتها المؤسسة العسكرية الجزائرية، وأهمها من دون شك الإصلاحات الأخيرة التي أعقبت رئاسيات 2014، ساهمت في إعادة هيكلة المؤسسة الأمنية وإعادة توزيع المهام والصلاحيات، وإنهاء مشكلة تضخم الجهاز الأمني بفروعه المختلفة وتحوله من جهاز خادم للدولة إلى جهاز تخدمه الدولة". وأشار إلى أن ذلك "ساهم إضافة إلى تغير التركيبة البشرية للجيش بشكل كبير، في القطيعة بين الجيش والتدخّل في السياسة". وأدرج الدعوات الموجّهة إلى الجيش للقيام بدور سياسي "كمحاولات لممارسة الضغط على قيادة الجيش، لمعرفة موقفها من الانتخابات الرئاسية المقبلة".

وفي وقت يصر فيه الجيش وكوادره على إعلان القطيعة مع الشأن السياسي، لا يصدق قطاع واسع من النخب السياسية في الجزائر بعدم تدخل الجيش في اختيار الرئيس في انتخابات 2019، أسوة بمجمل الاستحقاقات الماضية، سواء تعلق الأمر بالتوافق على التمديد لبوتفليقة، أو بالتوافق على خليفة له، خصوصاً أن مجمل التقارير السارية في كواليس أعلى هرم السلطة، تتحدث عن دور فاعل لقائد أركان الجيش الفريق أحمد قايد صالح في أي مخرجات سياسية مرتقبة بشأن 2019.