لكن قرار اعتراف 57 دولة إسلامية بالقدس عاصمة لفلسطين، لم يصدر من الرياض أو القاهرة أو دمشق أو غيرها من العواصم العربية المهمة، بل من إسطنبول، التي اتخذت المبادرة بصفتها رئيسة للدورة الحالية لمنظمة التعاون. وربما تنعكس مواقف الرئيس رجب طيب أردوغان ضد أميركا وإسرائيل بتبعات سياسية ضد أنقرة، خصوصاً أن العلاقة الأميركية التركية تمر أصلاً في أسوأ مراحلها حالياً.
كانت القمة "ناجحة وناجزة"، على حد تعبير الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، الذي بدا، في المؤتمر الصحافي الختامي للقمة، راضياً تماماً عن الدعم الذي تلقته قضية فلسطين.
ورغم ما يطرحه هذا القرار من تحديات لناحية إمكانية تطبيقه وترجمته عملياً، لكن القمة كرّست تركيا، بدعم أردني فلسطيني، قوة أساسية في المنطقة ومن بوابة الملف الفلسطيني تحديداً، بينما بدا الحضور العربي المحسوب على السعودية، ضعيفاً للغاية، بمستوى التمثيل، وفي رمزية أنه في اللحظة نفسها التي كان يتحدث فيها المتكلمون في القمة الإسلامية، كان الملك سلمان بن عبد العزيز يلقي خطاباً في افتتاح أعمال مجلس الشورى السعودي وردت فيه فلسطين و"حق فلسطين أن تكون لها دولة"، مرور الكرام، ولدقائق لم تتجاوز ما خصصه الرجل لقضايا سعودية محلية من فساد وموازنات وقوانين داخلية. وفي الوقت الذي كانت القمة الإسلامية منعقدة في تركيا، كانت السعودية والإمارات تقدمان 130 مليون دولار لفرنسا، لتخوض حربها في الساحل الأفريقي ضد "الإرهابيين"، بدل دعم صندوق القدس بهذا المبلغ مثلاً.
وبحسب البيان الصادر عن قمة القدس، فقد اعترفت المنظمة بشكل رسمي بدولة فلسطين وعاصمتها القدس الشرقية، ودعت جميع دول العالم للاعتراف بالقدس المحتلة عاصمة لدولة فلسطين، مُدينة بأشد العبارات قرار الولايات المتحدة غير القانوني بشأن القدس. وقد التزم البيان النهائي بالسقف الذي حددته السلطة الفلسطينية للتحرك. وبينما تميل بعض الدول العربية لتبني الرواية الإسرائيلية على عكس موقف الشعوب، ظهرت أنقرة وكأنها تبنت وبشكل رسمي الموقف والرواية العربية والفلسطينية الرسمية للصراع العربي ضد دولة الاحتلال. وبعدما أبدى أردوغان موقفاً حاسماً بدعوة الدول الإسلامية للاعتراف بالقدس عاصمة محتلة لدولة فلسطين، لم يتوان عن شرح أوضاع الفلسطينيين بالخرائط منذ قرار تقسيم فلسطين الصادر عن مجلس الأمن الدولي في عام 1948. وقد تخللت كلمته انتقادات حادة لأميركا، التي "دمرت دورها بوصفها وسيطاً للسلام"، مشيراً إلى أن القرار الأميركي "جاء كعقوبة للفلسطينيين الذين لطالما أثبتوا أنهم يقفون إلى جانب السلام". ووجه الرئيس التركي كلامه للرئيس الأميركي، بعد الشرح الذي قدمه عن تاريخ القضية الفلسطينية وجرائم دولة الاحتلال، بالقول: "ماذا تريد أن أشرح لك أكثر من ذلك يا ترامب، كل شيء جلي، بالنسبة لإسرائيل فلا داعي أن نشرح أي شيء".
وبدت السلطة الفلسطينية مرتاحة رغم انخفاض السقف الذي وضعته في مواجهة دولة الاحتلال، وباستثناء الضربة التي تلقتها واشنطن برفض دورها كوسيط في عملية السلام، لم يخرج التصعيد الفلسطيني عن سقف أوسلو وحديث حل الدولتين، بل بدت القيادة الفلسطينية مشلولة في الحركة وغير راغبة في التصعيد ضد الاحتلال بقدر التصعيد ضد الراعي المعروف بانحيازه لصالح دولة الاحتلال في عملية السلام، أي واشنطن، فلم يكن الحديث عن وقف التنسيق الأمني أو مواجهة الاحتلال بهبة شعبياً، بل كان تصعيداً باهتاً ضد واشنطن وليس تل أبيب، عبر التهديد بالتوجه إلى توسيع دائرة مشاركة دولة فلسطين في المنظمات الدولية بما يعنيه ذلك من التوجه إلى محكمة العدل الدولية لمحاكمة قادة دولة الاحتلال في الجرائم التي ارتكبوها ضد الفلسطينيين.
وشدد عباس على شكر تركيا والأردن، مع محاولة لتجنب إغضاب السعودية، التي كان تمثيلها في القمة تمثيلاً ضعيفاً، حيث ترأس وفدها، وزير الشؤون الدينية والدعوة والإرشاد، صالح آل الشيخ. ولم ينتج القرار الاميركي بشأن القدس وقمة إسطنبول، تحولاً كبيراً في الاستراتيجية الفلسطينية للتعامل مع دولة الاحتلال، لربما، باستثناء دور واشنطن كراعٍ للسلام، بل بدت السلطة مصرّة على الاستمرار بحل الدولتين، والتمسك بما أطلق عليه عباس "الشرعية الدولية" التي أثبتت عقمها وعدم جدواها على مدى أكثر من نصف قرن من مأساة فلسطين. وقال عباس: "ندعو القمة لاتخاذ قرارات حاسمة لدعم القضية وتحديد علاقات الدول بالمنظمة الإسلامية مع دول العالم بناء على علاقتها بقرار ترامب. ماذا سنفعل إن فتحت دول سفاراتها بالقدس"؟ وأضاف "أولاً المطلوب قرارات اقتصادية وسياسية ضد إسرائيل لتنصاع لقرارات المجتمع الدولي وتنهي احتلالها لفلسطين وعاصمتها القدس، ومطالبة دول العالم بمراجعة اعترافها بإسرائيل ما دامت تخرق القرارات الدولية، والتقدم بقرارات لمجلس الأمن لإبطال القرار الأميركي، وأميركا لا تستطيع استخدام الفيتو (حق النقض) وفق القانون الدولي، وطلب دورة خاصة لمجلس حقوق الإنسان".
كما طالب الرئيس الفلسطيني بآلية دولية بعيداً عن الرعاية الأميركية لعملية السلام، مشدداً على أن واشنطن لم تعد وسيطاً نزيهاً، قائلاً: نؤكد أننا ملتزمون بالسلام، وهي ليست دونية بل احتراماً للعالم الحر وسنبقى نحارب الإرهاب ونستمر حتى نحصل على دولتنا، بالسلام القائم على الشرعية الدولية ونطالب بنقل ملف الصراع برمته للأمم المتحدة لأن الولايات المتحدة لم تعد وسيطاً لعملية السلام ولم نعد نقبل بأميركا ونريد آلية دولية".
ورغم الصخب والتصريحات النارية التي عمدت لها عدد من الدول الإسلامية قبل القمة، إلا أن التمثيل العربي بالذات، بدا هزيلا للغاية إن تمت مقارنته بالقمة العربية الإسلامية الأميركية التي انعقدت في يونيو/حزيران الماضي في الرياض، حين التف كثيرون من قادة المنطقة حول ترامب.
وبينما شارك في قمة الرياض إلى جانب الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، 55 قائد دولة عربية وإسلامية من بينهم 36 قائداً على مستوى ملك ورئيس وخمسة رؤساء حكومة وولاة عهد و11 وزيراً ممثلاً، لم يشارك في قمة إسطنبول لمنظمة التعاون الإسلامية سواء 48 دولة من أصل 57 دولة هي عضو في المنظمة، ليس بينهم سوى 16 رئيس دولة، لم يكن بينهم قادة الدول العربية الكبرى مثل السعودية أو مصر أو العراق.
وتختلف التقديرات حول مستوى التمثيل المصري، حيث ترأس الوفد المصري وزير الخارجية المصري، سامح شكري. ويبرر البعض بأن الرئيس المصري لم يحضر القمة ليس فقط لاعتبارات تتعلق بعلاقته مع إسرائيل، لكن أيضاً لأنه لا يزال شخصاً غير مرحب به في تركيا.