جاء قرار الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، أول من أمس، بتشكيل لجنة عليا لمكافحة الأحداث الطائفية محمّلاً بدلالات سياسية وأمنية عديدة، لا تقتصر على موعد إصدار القرار، قبيل أيام من حضوره قداس عيد الميلاد للأقباط الأرثوذكس الذي سيقام في الكنيسة الكبرى في العاصمة الإدارية الجديدة، الأسبوع المقبل، ومن المنتظر أن يتحدث السيسي خلاله عن هذه اللجنة وتكليفاته لها. فللمرة الأولى تشكل الدولة المصرية لجنة تختص بالتصدي لظاهرة الاحتقان الطائفي، مع استبعاد جميع القيادات الدينية، وعلى رأسها الأزهر والكنيسة المرقسية، إذ اكتفى السيسي بتشكيل اللجنة من شخصيات ومناصب عسكرية وأمنية ورقابية بحتة، وكأن القضاء على ظاهرة العنف الطائفي، التي تستعر بين الحين والآخر خصوصاً في محافظات الصعيد، لا يمكن أن يتم إلا بالوسائل الأمنية.
وسيرأس اللجنة مستشار رئيس الجمهورية لشؤون الأمن ومكافحة الإرهاب، وهو المنصب الذي يشغله حالياً وزير الداخلية الأسبق اللواء أحمد جمال الدين، وبعضوية ممثلين لكل من هيئة عمليات القوات المسلحة، والاستخبارات الحربية، والاستخبارات العامة، والرقابة الإدارية، والأمن الوطني. وتتصادم الأدوار المنوطة بهذه اللجنة "العليا" بوضوح مع الأدوار التي كانت مسندة إلى هيئة شكلت بعد ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، هي "بيت العائلة المصرية" بقرار من رئيس الوزراء الأسبق، عصام شرف، في عهد المجلس الأعلى للقوات المسلحة. وتم تشكيل "بيت العائلة" للمرة الأولى برئاسة مشتركة بين شيخ الأزهر، أحمد الطيب، والبابا الراحل شنودة الثالث، وحالياً يرأسه الطيب والبابا تواضروس الثاني، بالتناوب فيما بينهما. وهو هدف منذ الإنشاء إلى الحفاظ على النسيج الاجتماعي لأبناء مصر بالتنسيق مع جميع الهيئات والوزارات المعنية في الدولة، بعضوية عدد من علماء الدين المسلمين وممثلين عن الكنيسة القبطية وممثلين عن مختلف الطوائف المسيحية بمصر وعدد من المفكرين والخبراء.
ورغم أن "بيت العائلة" تحول بمرور الوقت، وإهمال السلطة، إلى ما يشبه "المكلمة" (كثير من الكلام، قليل من الفعل)، إلا أن شيخ الأزهر حاول أخيراً إحياء دوره، فأصدر بالاشتراك مع تواضروس قراراً في يوليو/تموز الماضي بتشكيل مجلس أمناء جديد، بعضوية رئيس مركز الحوار بالأزهر وعضو هيئة كبار العلماء الدكتور محمود حمدي زقزوق، ووكيل الأزهر السابق الدكتور عباس شومان، ومفتي الديار المصرية الدكتور شوقي علام، والأسقف العام ورئيس المركز الثقافي القبطي الأرثوذكسي الأنبا إرميا، وبطريرك الأقباط الكاثوليك الأنبا إبراهيم إسحاق، ورئيس الطائفة الإنجيلية الدكتور القس أندريه زكي، ورئيس الكنيسة الأسقفية بمصر وشمال أفريقيا المطران منير حنا. كما يضم المجلس مساعد رئيس الجمهورية للمشاريع القومية والاستراتيجية إبراهيم محلب، ووزراء الأوقاف والثقافة والشباب والرياضة والهجرة وشؤون المصريين بالخارج، ومدير مكتبة الإسكندرية الدكتور مصطفى الفقي، والمستشار التشريعي والقانوني لشيخ الأزهر سابقاً محمد عبد السلام، ووزير الشؤون القانونية الأسبق وأستاذ القانون الدولي بجامعة القاهرة مفيد شهاب، وأمين عام مجمع البحوث الإسلامية بصفته، ونقيب الأشراف ووكيل مجلس النواب محمود الشريف، والنائب البطريركي للأقباط الكاثوليك الأنبا يوحنا قلتة، ووكيل مطرانية كفر الشيخ ودمياط ودير القديسة دميانة بالبراري بطرس بطرس بسطوروس، وآخرين. ونص القرار على أن يجتمع المجلس مرة كل ستة أشهر، أو كلما دعت الضرورة، على أن يتولى المنسق العام ومنسق الفروع عرض تقارير العمل على المجلس، كما يحق لرئاسة مجلس الأمناء دعوة من تراه من الشخصيات العامة لحضور اجتماعات المجلس.
لكن الخطوة التي اتخذها السيسي أخيراً تكرس الوضعية الصورية لتلك المؤسسة، بل وتفرغ القرارات السابق اتخاذها بشأن الأحداث الطائفية من مضمونها، والتي كانت تتمثل في تأسيس أفرع لـ"بيت العائلة" في محافظات الجمهورية وتعيين مشايخ وقساوسة لإدارتها والعمل على التدخل السريع وحل المشاكل فور حدوثها والتواصل مع أطراف الأحداث الطائفية والأجهزة الأمنية والتنسيق في ما بينها. وقال مصدر في مشيخة الأزهر، لـ"العربي الجديد"، إن الحديث عن فشل "بيت العائلة" ليس دقيقاً تماماً "لأن الهيئة بلجانها في المحافظات المختلفة استطاعت وأد أكثر من 100 حادث فتنة طائفية لم يسمع المصريون عنها في 8 سنوات"، مشيراً إلى أن شيخ الأزهر كان يصمم على إنهاء النزاعات بالطرق العرفية والودية حتى لا تتضخم المشاكل، وإيماناً منه بالخصوصية الثقافية لأهالي الصعيد، سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين، وطالما أكد أن الحل الأمني ليس الحل المناسب لفض تلك النزاعات. وأضاف المصدر أن قرار تشكيل اللجنة الجديدة جاء قاصراً لعدم رسمه حدود التعامل مع "بيت العائلة"، مبدياً تخوفه من أن يؤدي هذا التضارب في الأدوار إلى غلبة الحلول الأمنية على الحوار والتفاهم. ورجح أن يكون خلو التشكيل من أي ممثل ديني جزءاً من مسلسل الاستبعاد المستمر للأزهر والطيب من الخطط الحكومية الجديدة، نتيجة الخلاف المتجدد بينه وبين السيسي، وتبعاً لاستبعاد الأزهر من التشكيل تم استبعاد الكنائس أيضاً، لأنه ليس من المعقول ضم ممثلي الطوائف المسيحية للعضوية دون ممثلي الهيئات الإسلامية.
وأشار المصدر إلى أن "ضم ممثلين للأمن الوطني والرقابة الإدارية تحديداً ينبئ بوجود نية لاستبعاد الأزهر من أعمال هذه اللجنة، نظراً لوجود خلافات بين الجهازين والأزهر حالياً في العديد من الملفات"، كاشفاً أن الجهازين أعدا تقارير، وصفها بـ"السلبية والمحرضة"، ضد شيخ الأزهر بعد خروج تظاهرات في مسقط رأسه ومناطق أخرى بالصعيد تؤيد موقفه المتشبث بالسنة النبوية في مواجهة دعوات التجديد التي يتبناها السيسي ووزير الأوقاف، مختار جمعة. وعلى صعيد آخر، أكد التشكيل الدور المميز والاستثنائي الذي باتت تلعبه هيئة الرقابة الإدارية على الأرض إلى جانب الاستخبارات العامة والأمن الوطني، رغم أن دورها القانوني ينحصر في مراقبة التصرفات المالية والإدارية بالجهات الحكومية. وقال مصدر في الأمن العام تعليقاً على ذلك إنه بات يطلب من الرقابة الإدارية تقارير تقييم لعمل الأجهزة الأمنية الأخرى، وهو أمر لم يكن يحدث حتى العام 2017، فضلاً عن دخولها على خط التواصل مع أطراف النزاعات والشخصيات العامة والنشطاء بالتوازي مع اتصالات أجهزة أخرى، ما يسبب أحياناً ارتباكاً في إدارة النظام لبعض الملفات.