بغضّ النظر عن الدوافع التي حدت بالرئيس الأميركي، دونالد ترامب، إلى اتخاذ قراره الاعتراف بالقدس المحتلة عاصمة لإسرائيل وبدء اتخاذ إجراءات نقل السفارة الأميركية للمدينة، إلا أن هذا القرار قد نسف عملياً كل مركبات البيئة التي راهنت واشنطن عليها في تمرير تصورها لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والذي أطلق عليه "صفقة القرن"، ذلك لأنه حين تبنّى "الوسيط" الأميركي موقفاً أحادياً مسبقاً بشأن واحدة من أهم قضايا الحل الدائم، فإنه ضرّ بقدرته على الوساطة، وقلّص أيضاً هامش المناورة المتاح أمام القوى الإقليمية العربية، التي راهن عليها في مساعدته على تسويق هذه الصفقة.
ومع تبنّي ترامب موقف اليمين الإسرائيلي بشأن القدس، قاربت قدرة الأطراف الإقليمية، لا سيما السعودية، على دفع هذه الصفقة، الصفر. فإقدام ترامب على اتخاذ هذا القرار قبل الإعلان عن المبادرة الأميركية وبدء المفاوضات بشأن مركباتها، نسف عملياً مصداقية القوى الإقليمية العربية، التي أكدت وسائل الإعلام الأميركية أنها "شرعت بالفعل في التسويق للأفكار التي تنطوي عليها صفقة القرن"، خصوصاً خطة التسوية التي كشفت صحيفة "نيويورك تايمز"، وأكدت أن "ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، قد عرضها على رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، وهي عبارة عن دولة فلسطينية، مع بقاء القدس والمستوطنات تحت السيادة الإسرائيلية".
إلى جانب ذلك، فمن المرجّح أن تسحب خطوة ترامب من التداول بعض الصيغ التي تمت الإشارة إليها كصور للتسوية الإقليمية، مثل تدشين دولة فلسطينية في شمال سيناء، أو الإعلان عن كونفدرالية فلسطينية أردنية تضمن بقاء المستوطنات اليهودية في الضفة تحت السيادة الإسرائيلية وغيرها، وهي الأفكار التي سال لها لعاب قادة اليمين الإسرائيلي. كما أن إعلان ترامب حمل في طياته طاقة كامنة لتفجير الأوضاع الأمنية، لزيادته احتمال تفجر ردة فعل جماهيرية فلسطينية عارمة، يمكن أن تفضي إلى اندلاع هبة كبيرة. فإعلان الفصائل الفلسطينية مجتمعة عن "أيام غضبٍ" رداً على قرار ترامب فتح المجال أمام تجسيد هذا الاحتمال. وفي حال انفجرت هبة فلسطينية جديدة فإن هذا التطور يمثل اختباراً صعباً للعلاقة بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل. فالسلطة الفلسطينية العاملة بكل ما في وسعها لضبط الأوضاع الأمنية ومنع انفجار مواجهات بين الجماهير الفلسطينية وسلطات الاحتلال، فضلاً عن تعاونها أمنياً مع تل أبيب لضمان تحقيق هذا الهدف، ستجد صعوبة كبيرة في مواصلة هذا النهج في حال تفجرت هبة رداً على قرار ترامب.
ومن الواضح أن ردة الفعل الأمنية الإسرائيلية على الهبة الجماهيرية المحتملة ستفتح الباب على مصراعيه أمام تطورها. وتدل تجربة الماضي على أن دور فلسطينيي الداخل في كل حراك جماهيري يتعلق بالقدس والمسجد الأقصى كان كبيراً. ومما يزيد من خطورة ردة فعل فلسطينيي الداخل، بالنسبة لإسرائيل، حقيقة أن تمتعهم بحرية حركة كبيرة، يمنحهم القدرة على إسناد أي تحرك جماهيري داخل القدس. ونظراً لأن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية قد كشفت أن منفذي عملية الطعن التي أفضت، الأسبوع الماضي، إلى قتل أحد جنود الاحتلال في مستوطنة "عراد" جنوبي فلسطين المحتلة، نفذها شابان من فلسطينيي الداخل، فإن هناك مخاوف في تل أبيب من أن تسهم أية هبة يمكن أن تنفجر في أعقاب قرار ترامب في تدهور الأوضاع الأمنية بشكل كبير. وقد كانت المخاوف من تفجر الأوضاع الأمنية في أعقاب قرار ترامب هي التي دفعت قادة المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، وفي خطوة غير مسبوقة، إلى إرسال رسائل لنظرائهم الأميركيين للتحذير من تداعيات هذه الخطوة، كما كشف موقع "وللا" الإسرائيلي، أمس الأربعاء.
ونظراً لتزامن قرار ترامب مع التسهيلات التي قدمتها سلطات الاحتلال لجماعات الهيكل اليهودية المتطرفة التي تنادي بتدمير المسجد الأقصى وسماحها لعناصرها بالاقتراب من مسجد قبة الصخرة، فإن إعلان ترامب يحرج الأردن بشكل كبير. إلى جانب ذلك، فإن عدم استبعاد الرئيس التركي، طيب رجب أردوغان، أن تقدم بلاده على قطع علاقاتها الدبلوماسية بإسرائيل قد يدفع العلاقة بين أنقرة وتل أبيب إلى ما قبل الاتفاق الذي سمح بتطبيع العلاقات الثنائية مجدداً. في الوقت ذاته، فإن انعقاد اجتماعات لوزراء خارجية الدول العربية، كما تقرر، أو عقد اجتماع قمة لدول "مؤتمر العالم الإسلامي" كما دعا أردوغان، يمكن أن يفرض قيوداً تقلص من فرص تمكن بعض القوى الإقليمية العربية التي تتخذ مساراً واضحاً في مجال التطبيع مع إسرائيل من مواصلة نهجها.