مع انتهاء مؤتمر أستانة، الذي تقرر خلاله ضم محافظة إدلب السورية وجوارها إلى مناطق "خفض التصعيد"، ونشر مراقبين دوليين للإشراف على تطبيق الاتفاق، تشهد إدلب حركة دؤوبة لتلافي أية خيارات "سيئة" قد تبيت للمدينة بدعوى محاربة الإرهاب، وتحديداً "هيئة تحرير الشام" التي تشهد بدورها انكماشاً متواصلاً بعد سلسلة الانشقاقات عنها، والتي أعادتها تقريباً إلى هيكلها الأول المتمثل في "جبهة فتح الشام"، أو ما كانت تعرف بـ"جبهة النصرة".
وفي هذا الإطار، عقدت مؤسسات مدنية وعسكرية عاملة في إدلب، مؤتمراً لتشكيل "إدارة مدنية" تخص المحافظة، إضافة إلى انتخاب برلمان يتولى تسمية رئيس للحكومة، في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري في عموم البلاد. ويقول المنظمون للمؤتمر إن الظروف أصبحت مؤاتية لتشكيل جسم مدني بعيداً عن "التجاذبات السياسة والعسكرية". وشارك في المؤتمر، الذي عقد في قاعة المؤتمرات بمعبر باب الهوى، شخصيات مدنية وعسكرية، منها مؤسس "الجيش السوري الحر"، رياض الأسعد، الذي شدد على ضرورة وجود جسم واحد يضبط العمل في ظل الضغوطات التي تشهدها إدلب.
ويأتي المؤتمر بعد أن دعت "هيئة تحرير الشام" جميع الفصائل العسكرية وعلماء الدين والكوادر المدنية إلى اجتماع بهدف "الخروج بمشروع يحفظ الثورة السورية ويمثلها"، الأمر الذي رفضته معظم الجهات والشخصيات في المدينة، لتنطلق بعدها ثلاث مبادرات دعت أيضاً إلى تشكيل "إدارة مدنية موحدة"، لكن لم يكن لأي منها نتائج على الأرض. وقال الناشط الإعلامي، عامر سيد علي، الذي حضر جانباً من المؤتمر لـ"العربي الجديد"، إن الاجتماعات شهدت مناقشات جادة بين الحضور، الذين يمثلون مختلف القوى العسكرية والمدنية في المحافظة حول أفضل السبل لتنظيم القوى وتوحيدها تحت راية واحدة، تتسم بالتمثيل والفاعلية بالنسبة إلى محافظة إدلب وسائر البلاد، بهدف التخلص من وصاية القوى الخارجية، وقبل ذلك وصاية بعض القوى الحزبية في الداخل، وذلك قبل تنفيذ مقررات مؤتمر أستانة. واستبعد سيد علي أن يكون للمؤتمر نتائج فورية على الأرض، وإن كان يشكل خطوة أخرى نحو بلورة الجهود الرامية إلى تشكيل بدائل مدنية منتخبة عن هيمنة الفصائل العسكرية، خصوصاً هيمنة "هيئة تحرير الشام" على محافظة إدلب، والتي باتت تهدد بتعريض المحافظة إلى أخطار جمة، وإدراجها في دائرة الاستهداف الدولي بدعوى محاربة الإرهاب.
وكانت "هيئة تحرير الشام" أعلنت رفضها نتائج محادثات "أستانة 6"، معتبرةً أنها تهدف إلى تجميد القتال وتسوية الوضع مع النظام السوري و"لا تحقق أهداف الثورة". وقال المسؤول الإعلامي في "الهيئة"، عماد الدين مجاهد، في بيان أصدره السبت الماضي، إن "مؤتمر أستانة يهدف إلى تسوية الوضع مع النظام عبر مراحل متعددة، بدأت بإيقاف إطلاق النار، وستنتهي بإعادة المناطق لحكم بشار الأسد من جديد"، معتبراً أن عملية أستانة أعطت الشرعية للنظام، وبالتالي ستجرّم كل من وقف بطريق الأسد خلال سنوات الحرب، مشدداً على أن "الهيئة" ستواصل قتال النظام السوري وروسيا وإيران. وكانت "هيئة تحرير الشام" شهدت أخيراً سلسلة انشقاقات، خرج خلالها أكبر تشكيلين عسكريين من جسمها، وهما حركة "نور الدين الزنكي" و"جيش الأحرار"، فضلاً عن العديد من التشكيلات الصغرى، وذلك احتجاجاً على التسريبات الأخيرة من داخل "الهيئة" التي أظهرت التخطيط المسبق من جانب بعض المتشددين فيها لتصفية "حركة أحرار الشام" تحت حجج واهية، واستهتار هؤلاء بالشرعيين في "الهيئة"، ما دفع بعضهم، مثل الداعية السعودي عبدلله المحيسني، إلى الانسحاب من "الهيئة".
وكانت روسيا أعلنت أن الدول الضامنة لاتفاق "خفض التصعيد"، أي روسيا، وتركيا، وإيران، سترسل كل منها 500 مراقب إلى محافظة إدلب، مشيرة إلى احتمال توسيع دائرة الأطراف المراقبة لمناطق "خفض التصعيد"، بضم فرق من الصين وأربعة بلدان عربية، هي مصر والإمارات والعراق ولبنان. ورغم محاولة المتحدث العسكري باسم وفد المعارضة المشارك في مؤتمر أستانة، ياسر عبد الرحيم، طمأنة "هيئة تحرير الشام"، قائلاً إن "لا نية لهم ولا للضامن التركي في قتالها"، معتبراً أن ما يتداوله الإعلام عن عمل عسكري وشيك ضدها هدفه الفتنة، وإحداث اقتتال جديد بين الفصائل، داعياً "هيئة تحرير الشام" إلى إجراء إصلاحات شاملة في هيكليتها القيادية وإبعاد الشخصيات الجدلية من صفوفها، إلا أن مصادر ومؤشرات عدة تشير إلى احتمال شن عملية عسكرية باتجاه إدلب في القريب العاجل، إذا لم تحدث حلحلة بشأن موقف "هيئة تحرير الشام" الرافض لاتفاق "خفض التصعيد" الذي تم إقراره في أستانة، وإذا لم تبادر "الهيئة" إلى حل نفسها، باعتبار أنها بوضعها الحالي، وهي مصنفة كمنظمة إرهابية بموجب قرارات مجلس الأمن، ستظل محل استهداف من القوى الدولية، ما يعرض المحافظة لمخاطر جمة، ويعيق تطبيق اتفاقية "خفض التصعيد".
في هذا الإطار، واصلت تركيا إرسال تعزيزات عسكرية إلى الحدود مع سورية لليوم الرابع على التوالي، وسط تسريبات عن عملية محتملة ضد "هيئة تحرير الشام". وذكرت وكالة "الأناضول" أن القوات التركية أرسلت تعزيزات وإمدادات عسكرية إلى قواتها المتمركزة في ولاية هاتاي (الإسكندرونة) المتاخمة للحدود السورية، مشيرة إلى أن القوافل تحمل تعزيزات وإمدادات تتضمن معدات طبية وعسكرية. وخلال الأيام الماضية أرسل الجيش التركي العديد من التعزيزات العسكرية إلى الحدود، شملت معدات عسكرية ودبابات وناقلات جند، إضافة إلى تعزيز أعداد الجنود المنتشرين على الحدود. وبررت السلطات التركية أسباب زيادة التعزيزات العسكرية بزيادة الترتيبات الأمنية والعسكرية استباقًا لـ"الهجمات الإرهابية"، غير أن تكهنات انتشرت، أخيراً، عن عملية عسكرية روسية- تركية في محافظة إدلب تستهدف "هيئة تحرير الشام"، تبدأ بضربات جوية، قبل أن يتوغل الجيش التركي في إدلب انطلاقاً من الحدود الشمالية، بينما يتقدم كل من الجيشين الروسي والإيراني من الجنوب. وذكرت صحيفة "يني شفق" التركية في وقت سابق أنّ القوات التركية تستعد لدخول إدلب في عملية من المقرر أن تنطلق في أي وقت خلال سبتمبر/أيلول الحالي، وذلك من خلال منطقتي الريحانية ويايلاداغي التابعتين إلى الإسكندرونة. وأضافت الصحيفة أنّ القوات المسلحة التركية، بالتعاون مع فصائل الجيش السوري الحر، ستدخل المنطقة الغربية من مدينة إدلب، المطلة على الإسكندرونة، وذلك بعمق 35 كيلومتراً، وبطول 130 كيلومتراً، مشيرة إلى أن 25 ألف جندي من القوات المسلحة التركية وفصائل الجيش السوري الحر سيشاركون في العملية العسكرية، موضحة أنّ القوات ستدخل المدينة من خلال جسر الشغور ودار عزة، وستسيطر على مساحة تبلغ نحو 5 آلاف كيلومتر مربع.
من جهته، قال رئيس هيئة الأركان العامة التركية، الجنرال خلوصي آكار، خلال اجتماعه مع نظيره الأميركي جوزيف دانفورد في ألبانيا، إن بلاده لن تسمح أبداً بإقامة كيان إرهابي للمليشيات الكردية في شمالي سورية، وانتقد مجدداً الدعم الأميركي لهذه القوات. وذهب المحلل السياسي التركي، أوكتاي يلماظ، إلى هذا المعنى بقوله إن التحركات العسكرية التركية ربما تستهدف بالدرجة الأولى منع إقامة كيان كردي على حدود البلاد الجنوبية. وأضاف يلماظ، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن تركيا تبذل ما بوسعها من أجل تجنيب محافظة إدلب الخيارات السيئة، وكانت اقترحت على "هيئة تحرير الشام" حل نفسها، وهو ما تجتمع عليه مختلف قوى المعارضة السورية، باعتبار ذلك الخيار الأمثل في الوقت الراهن. جدير بالذكر أن "هيئة تحرير الشام" كانت رفضت هذا الخيار وقتها، مقترحة أن تحل جميع الفصائل نفسها بما فيها "هيئة تحرير الشام". من جهتها، ذكرت وزارة خارجية النظام السوري، أن اتفاقات "خفض التصعيد" في محافظة إدلب، "لا تعطي الشرعية لتركيا بالتواجد على الأراضي السورية"، واصفة وجودها بأنه غير شرعي. ونقلت وكالة أنباء النظام "سانا" عن مصدر في الخارجية قوله إن حكومة النظام السوري "فوضت فقط روسيا وإيران لإتمام الاتفاق الأخير حول محافظة إدلب في أستانة". واعتبر أن الاتفاق "فرصة لتركيا للتراجع عن دعم الفصائل العسكرية بالمال والسلاح، وإرسالهم إلى سورية، الأمر الذي يؤدي لإعادة الأمن إلى تلك المناطق".