تحولت البلدات والقرى الصحراوية في المناطق الوسطى والجنوبية من ليبيا، بعد تلاشي القانون والنظام، إلى مرتع لعشرات آلاف المرتزقة المعروضين للإيجار، بالإضافة إلى عناصر تنظيم "داعش". كما يشعل الصراع على كعكة تهريب النفط والبشر معارك بين القبائل المتواجدة في المنطقة. وأجبرت سلسلة من الانتصارات العسكرية على الجماعات المسلحة، بطول الساحل الليبي على البحر المتوسط، مئات المسلحين، ومن بينهم مقاتلي تنظيم "داعش"، على البحث عن ملاذ في الصحاري الشاسعة بهذه الدولة الواقعة في شمال أفريقيا، والتي تعد فعلياً موطناً للمليشيات القادمة من الدول المجاورة والعصابات الإجرامية العابرة للحدود والمرتزقة. ويوفر وسط وجنوب ليبيا، الغائب عنهما القانون والمهجوران، ملاذاً للمسلحين لإعادة التنظيم والتجنيد والتدريب، وربما التخطيط للعودة. ويحظى هذا الأمر بأهمية خاصة، في وقت لم يخسر فيه "داعش" معاقله الحضرية في ليبيا فقط، بل إنه يتفكك في العراق وسورية. وفي المناطق النائية في ليبيا، بالقرب من الحدود مع مصر والسودان وتشاد والجزائر والنيجر وتونس، تنشط بالفعل العديد من الجماعات المسلحة بكل حرية. فالأسلحة متوافرة بسهولة، والاتجار بالبشر والتهريب عبر الحدود، لا سيما الوقود، أمور متفشية ومربحة.
وقد سمح عدم وجود ضوابط فعالة للحدود للمليشيات التي تقاتل الحكومتين السودانية والتشادية بإقامة معسكرات داخل ليبيا. وإلى جانبهم جاء الجنود المرتزقة من أماكن بعيدة، مثل الكاميرون. وكثيراً ما تستعر المواجهات القبلية والعرقية في صراع قاتل. وقال العقيد في الجيش الوطني الليبي، عبد الله نور الدين، إن المسلحين "يتحركون ذهاباً وإياباً بالقرب من الحدود الجنوبية، وعلى طول الطريق المؤدي إلى المناطق الوسطى من البلاد، حيث يسطون على السيارات المارة ويهاجمون المدنيين". وأضاف "أحياناً يعملون بالقرب من الحدود، حيث يمكنهم جني الأموال من التهريب وتجارة الأسلحة". وتأتي هجرة المسلحين بعد أن طردهم منافسوهم من المدن الساحلية، مثل سرت وبنغازي وصبراتة ودرنة. ويؤدي انتشارهم في الصحراء إلى تقويض إمكانية عودة الاستقرار إلى ليبيا الغنية بالنفط. وقالت الباحثة في الشأن الليبي لدى مجموعة الأزمات الدولية، كلوديا غازيني، إن مسلحي "داعش" اختفوا عن الأنظار في الصحراء الواقعة جنوب الساحل، حيث يتحركون في قوافل صغيرة كي لا يلفتوا الأنظار، أو أن بعضهم عاد إلى دياره. وتشير إلى أن آخرين منهم ينشطون حول سرت، حيث يشنون هجمات عرضية ضد خصومهم. وشهدت البلدات والقرى الصحراوية في المناطق الوسطى والجنوبية من البلاد تلاشياً للقانون والنظام منذ الإطاحة بمعمر القذافي في عام 2011. وتشير بعض التقديرات إلى أن عدد أفراد المليشيات المتفرغين يبلغ نحو 120 ألف فرد، وأن مقاتلي "داعش" نحو ألف مقاتل، لكن لا توجد وسيلة للتحقق بشكل مستقل من هذه الأرقام. وفي علامة على اليأس من تدهور الحالة الأمنية، أوقفت المؤسسة الوطنية للنفط في ليبيا الشحنات المتجهة إلى الجنوب، بعد سلسلة من عمليات اختطاف قوافل نقل الوقود. وبشكل ثابت، يظهر الوقود في وقت لاحق في السوق السوداء أو في البلدان المجاورة.
وفي وادي زمزم، جنوب مصراتة على بعد 50 كيلومتراً من الساحل، وجد عشرات من مسلحي "داعش" الملاذ هناك بعد أن هزموا العام الماضي في معركة سرت. ويشن مقاتلو التنظيم في وادي زمزم أحياناً هجمات على مصراتة، منشأ المليشيا التي أخرجتهم من سرت، فضلاً عن خطف المسافرين أو مهاجمة نقاط التفتيش. وأصبحت العوينات، في الزاوية الجنوبية الغربية النائية من ليبيا بالقرب من حدود الجزائر والنيجر، مثل "مركز للمرتزقة"، بسبب مئات المسلحين المتمركزين هناك المعروضين للتأجير. ويتم استئجار الرجال، ومعظمهم من تشاد والنيجر والكاميرون، في الغالب للقتال تحت لافتات المليشيات المختلفة. ويحصلون على ما متوسطه 2000 دولار شهرياً عند استئجارهم. وفي الوقت نفسه، تكسب المليشيات والجماعات الإجرامية في العوينات أموالاً من الاتجار بالبشر وعمليات الخطف من أجل الفدية وتهريب الأسلحة والمخدرات والوقود. ويعتقد أن خلايا صغيرة من مقاتلي تنظيمي "داعش" و"القاعدة" انتقلت إلى ضواحي مدينة الكفرة في جنوب شرقي ليبيا في الأشهر الأخيرة. وتعاني الكفرة منذ عقود من النزاع الدموي بين قبائل الزوي العربية وجماعة التبو في جنوب الصحراء الأفريقية، التي تقطن مساحات واسعة تمتد في شمالي تشاد وجنوبي ليبيا وشمال غربي السودان وشمال شرقي النيجر. وتهيمن الزوي على المدينة، وتتهم التبو بإيواء المجرمين والمسلحين من السودان وتشاد. وتنكر التبو التهم. وتشن مليشيات من كلا الجانبين مداهمات ثأرية، والتي غالباً ما تستهدف المدنيين. وينظر إلى النزاع على نطاق واسع على أنه منافسة للسيطرة على المعابر الحدودية وطرق التهريب المربحة. ويتمركز لواءان من قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر في الكفرة، لكنهما لا يمتلكان القوة البشرية أو الموارد اللازمة لإنفاذ القانون والنظام في المنطقة الصحراوية الشاسعة.
ويعتقد أن المئات من المسلحين الذين تمكنوا من الفرار من الهجوم على سرت، العام الماضي، تمكنوا من النجاة بالقرب من سبها، وسط ليبيا. فالمدينة خارجة عن السيطرة تقريباً، وتشهد العديد من الصراعات. واللاعبون الرئيسيون هم من قبيلة أولاد سليمان العربية، والتبو والطوارق، وجميعهم يتنافسون منذ سنوات للحصول على شريحة أكبر من تجارة التهريب. يذكر أن المليشيات المناهضة للحكومة من السودان وتشاد توفر مجموعة من المرتزقة لأي جماعة مسلحة. كما أنهم متورطون في تهريب الأسلحة عبر الحدود، وفقا للسياسي المحلي يوسف كالوركي. وبالنسبة إلى مقاتلي "داعش" في المنطقة فنشاطهم ضعيف، ويقضون معظم وقتهم في الوديان والجبال خارج المدينة. وفي مايو/ أيار، استولت القوات الموالية لحفتر على قاعدة جوية قريبة وعدة مناطق. وشهدت بلدة أوباري، الواقعة جنوب غرب سبها، قتالاً ضارياً بين العصابات الإجرامية المتنافسة في العام 2015، ما أدى إلى تشريد جميع السكان تقريباً. وانطلق القتال بعد محاولة عدة مليشيات السيطرة على السوق السوداء للوقود المدعوم من حكومة طرابلس. ومن المعروف أن الجماعات المسلحة المتشددة في المنطقة، بما في ذلك تنظيم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي"، متورطة بالاتجار غير المشروع، وتبيع الوقود في البلدان المجاورة بما لا يقل عن 10 أضعاف السعر في ليبيا.
(أسوشييتد برس، العربي الجديد)