لا يزال يسودُ التردد لدى البعض في بوليفيا، في وصف أحداثها الأخيرة بالانقلاب على الرئيس إيفو موراليس. على الرغم من ذلك، وبحسب مصادر تتابع عن كثب "الصراع على السلطة" في لاباز، فإن واقع الحال يشي بأن الأمور ليست ذاهبة إلى التهدئة، حتى بمغادرة موراليس إلى المكسيك، بعدما حاول الجيش والأمن البوليفيان الوصول إليه ومصادرة الطائرة الرئاسية وإصدار أوامر "غير قانونية" بالقبض عليه ومساعديه. فموراليس لم يتخل عن السلطة، من دون أن يكون للعسكر دور واضح في الطلب منه بالتنحي، وملاحقته حتى وصوله إلى المكسيك، بعدما قضى ليلة متخفياً.
وفي لاباز، انتشرت على الجدران كتابات تقول "إيفو بلا شعب"، في إشارة إلى خسارة الرجل للتأييد الشعبي من وجهة نظر المعارضة. في البداية، لم يُخفِ كثيرون من مؤيديه مفاجأتهم بمغادرته البلاد يوم الأحد الماضي بعد احتجاجاتٍ تواصلت ضده، إلا حين خرج العسكر والأمن يبحثون عنه وعن أركان حكمه، فيما وصف الرجل بنفسه ما جرى معه بـ"الانقلاب"، داعياً قادة المعارضة وتحديدا كارلوس ميسا ولويز فيرناندو كاماشو إلى "وقف ملاحقة زملائنا وأهالينا ووقف عنفهم ضد الوزراء وأعضاء البرلمان"، الذي اعتبر أيضاً ما جرى "انقلاباً عسكرياً - سياسياً بتحالف الأوليغارشية البوليفية، وذلك أمرٌ مؤلم".
وعززت انتقادات منظمة الدول الأميركية لنتائج الانتخابات الرئاسية التي أعلن فيها فوز موراليس في شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي من موقف المعارضة وقيادة الجيش، اللتين استغلتاها للانقضاض على الحكم، بحسب ما يرى مؤيدو الرئيس المستقيل. وما أضعف أيضاً موقف الأخير أنه ما كان ينبغي له بالأصل أن يترشح لفترة رئاسية جديدة، وذلك وفقاً للدستور البوليفي الذي اعتمد في فترته في العام 2009، والذي يسمح فقط بفترتين رئاسيتين. وحاول موراليس في العام 2016 تغيير هذا الدستور لأجل فترة ثالثة ورابعة، لكن محاولته أسقطت باستفتاء شعبي. وعلى الرغم من ذلك، وبضغط منه وفقاً للعارفين بالشأن البوليفي في لاباز، فقد دفع الرئيس بالمحكمة الدستورية في ديسمبر/كانون الأول الماضي (3 أصوات ضد صوتين) لمنحه فرصة للترشح مجدداً، ما أثار المعارضة التي اعتبرت ذلك "استغلالاً للسلطة"، ووصلت الاحتجاجات أوجها إثر اتهامات بالتلاعب بالنتائج التي أظهرت تقدمه بأكثر من 10 نقاط على حساب مرشح المعارضة، ميسا.
وما يثير المخاوف الآن هو أن جنرالات الجيش هم من حسموا الأمر، بظهور قائد الجيش وليامز كاليمان على شاشة التلفزيون مطالباً موراليس بالتنحي، وليس عبر النظام السياسي الدستوري الضامن للأمن والانتقال السلس للسلطة في بوليفيا، بعد عقودٍ من الانقلابات العسكرية التي شهدتها (أكثر من 53 انقلاباً عسكرياً خلال القرن الماضي). هذه المخاوف عززتها كلمات الشكر التي وجهت للأمن والجيش وللجنرال كاليمان بشكل خاص، من قبل زعيم المعارضة لويز فيرناندو كاماشو، حتى قبل صدور بيان الجيش بيومين.
مخاوف من صدام الشارع
أول من أمس الثلاثاء، لم يكن الوضع أفضل حالاً في بوليفيا، حين اتضحت الطبيعة الانقلابية لما جرى بالنسبة لمؤيدي موراليس، الذين تدخل الجيش لقمع احتجاجاتهم، واصفاً إياهم بـ"مجموعة مخربين". وخرج عشرات الآلاف ضد الانقلاب، فيما واصل "الانقلابيون" ملاحقة مؤيدي الحركة الاشتراكية التي قادها موراليس، وخصوصاً قيادة الصف الأول، بعد مواجهات عنيفة بينهم وبين مؤيدي المعارضة الذين دعمتهم قوات الشرطة.
وعلى ما يبدو، فإن الطبيعة العسكريتارية للانقلاب صارت تتضح أكثر مع مرور الساعات التي أعقبت اضطرار الرئيس المستقيل، الذي نقل عنه أن "المكسيك أنقذت حياته"، لمغادرة البلاد، بعد أوامر من قائد الجيش بالقبض عليه أو قتله، وفقاً لما ينقل مؤيدو الرئيس. موراليس، وبعد التواصل مع المكسيك وخروجه إليها، أدرك أن انقلاباً يجري ضده وضد قيادة البلد، فكتب يعد مناصريه بأنه سيعود إلى بوليفيا، على الرغم من أن تعيين الجيش رئيسة انتقالية للبلاد من صفوف المعارضة، هي نائب رئيسة مجلس الشيوخ، جانينا آنيز (52 عاماً). ووعدت آنيز بإجراء انتخابات رئاسية في بلد تعصف به القلاقل و"الخوف من اشتعال ما يشبه الحرب الأهلية بين مؤيدي موراليس من الشعب الأصلي الذي أوصل للمرة الأولى منذ 500 عام رئيساً يحكم بلدهم المستعمر لمئات السنوات من أقليات إسبانية وأوروبية، وفق ما ينظر الإنديفينيوس أو الأوفيماريوس، كما يطلق الهنود على أنفسهم، ومؤيدي المعارضة والجيش، الذي انفض عن رئيسه السابق"، بحسب ما يصف في لاباز الناشط والحقوقي البوليفي من أصول عربية، ناجي شريف.
وكانت موجة الاعتقالات التي طاولت بعض أعضاء اللجنة الوطنية للانتخابات بتهمة "التلاعب بنتائج انتخابات الرئاسة لمصلحة موراليس" واختفاء أو استقالة سياسيين قريبين من الرئيس المستقيل فتحت الباب أمام أكثر الشخصيات معارضة للأخير، وهي جانينا آنيز، لتحتل منصب الرئاسة بشكل مؤقت، واعدة بإجراء انتخابات بأسرع وقت ممكن، يفترض ألا يتعدى 90 يوماً منذ يوم شغور منصب الرئاسة. وسيتعين على هذه السياسية البوليفية المعارضة أن تهدئ مخاوف الشارع المؤيد لموراليس، على الرغم من أن القمع الذي يجابه به هؤلاء لا يبدو أنه يسير بالبلاد نحو هدوء سريع. ولا تخفف من ذلك تصريحات موراليس نفسه، وشعبيته غير الخافية على أحد، كرئيسٍ ملك كاريزما بين فقراء ويسار بلده ونقابييهم، وإن طاولته الكثير من المآخذ خلال سنوات حكمه الأخيرة من غرور السلطة وإصراره على الجلوس لدورات أربع متتالية في كرسي الرئاسة.
ويؤكد شريف أن الانقسام الذي أصاب بوليفيا اليوم "يطاول الجميع، فحتى يساريون من أصول عربية وغيرها يرون أن موراليس أخطأ بإصراره على الاستمرار في الحكم بعد 14 عاماً في السلطة، وكان من الممكن له أن يحافظ على هيبته ومكانته في معسكره، ويخرج من الحكم، أما عناده فقد أتاح استهداف حركة الاشتراكيين".
من جهته، يرى المحلل السياسي البوليفي، خافيير رودريغيز، أن قول موراليس فور وصوله للمكسيك إن المعركة لم تنته ليس سوى محاولة منه لتقوية موقف مؤيديه، سواء في الشارع أو لدى القيادة في حركة ماس". ويعتبر رودريغيز في حديث لـ"العربي الجديد" أن "موراليس يعرف تماماً لمن يتوجه، ولا أريد وصف خطابه بالشعبوي، لكنه يحمل بعضاً من هذا النفس في قوله إنه ناضل من أجل حقوق الشعب الأصلي، على الرغم من صحة هذا القول لناحية خفض نسبة الفقراء وتحسين أوضاع بوليفيا وتحقيق قفزة لناحية العدالة الاجتماعية".
وكان الرئيس المستقيل قد وجه كلامه إثر استقالته للشارع البوليفي ولقادة الجيش وللسياسيين الذين عيّنهم كاليمان بأنه "لن يكون هناك سلام قبل تحقيق العدالة الاجتماعية للجميع". وسبق أن أعرب بعض السكان الأصليين وغير الأصليين من البوليفيين لـ"العربي الجديد" عن مخاوفهم الجدية على الامتيازات التي حققتها الطبقات الفقيرة في ظلّ حكم موراليس.
وبحسب رودريغيز، فقد تسببت حالة الاستقالة التي أجبر عليها الرئيس البوليفي ونائبه ألفارو غارسيا ورئيس البرلمان بالوصول إلى "فراغ في السلطة استغله كاليمان بالتحالف مع زعيم المعارضة ومرشح الرئاسة ميسا، حيث تثور شكوك بوجود دعم وتنسيق أميركي - برازيلي لإيصال هذا البلد إلى الوضع الحالي".
ويستعيد المشهد الحالي في بوليفيا ما كان عليه في العام 2005، حين أجبرت التظاهرات في بداية يونيو/حزيران من ذلك العام الرئيس كارلوس ميسا على الاستقالة بعدما قضى 20 شهراً في الحكم، ليعود ويتسبب منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي بموجة تظاهرات أدت إلى تنحي موراليس، بعد اتهامات له بالتلاعب بنتائج الانتخابات التي أعلن فيها فوزه.
وتقول مصادر في لاباز لـ"العربي الجديد" إن "الوضع الناشئ حالياً سيعود بالفائدة على الشركات الكبرى التي تسببت أصلاً في انفجار الشارع في العام 2005 ووصول الحركة الاشتراكية، ماس، إلى السلطة، وقامت بتأميم قطاعات كثيرة وأهمها الغاز". وتغمز بعض المصادر إلى وجود ما يشبه التحالف بين تلك الشركات وقادة معسكر اليمين للتخلص من حقبة موراليس، ما "سيصب الزيت على نار غضب الشارع وخوفه من فقدان ما تحقق خلال السنوات الماضية من نمو اقتصادي وتحسن أوضاع ملايين البوليفيين".
في العموم، يتخوف البوليفيون من عودة الديكتاتورية العسكرية بواجهة مدنية في البلاد، والتراجع عن الإصلاحات التي تحققت في العقد الأخير لمصلحة الطبقات المعدمة، وخصوصاً في صفوف الشعب الأصلي. هذه المخاوف، يرى المحلل البوليفي من أصل عربي في لاباز، ياسر صالح، أنها "من الممكن أن تعيد الوضع إلى صدامات عنيفة قد تأخذ منحى عمليات انتقامية ضد القوى الانقلابية، إذا استمر هؤلاء بملاحقة قادة اليسار وسياسيين عملوا مع موراليس، وتصادمُ شارعين مستقطبين وجاهزين، في ظلّ التطورات الأخيرة التي جعلت العسكر يخرجون ببيانٍ انقلابي مخفف".
موجة يمين
باستثناء موقفي فنزويلا وكوبا الواضحين في اعتبار ما جرى في بوليفيا انقلاباً مداناً، يرى مراقبون كثيرون، ومنهم صالح، أن المواقف الإقليمية في دول "منظمة الدول الأميركية" بدت ليّنة وتحمل "الكليشه" ذاته المهدئ للوضع، بالدعوة إلى تسريع الحوار والانتقال إلى انتخابات عاجلة". ولا يخفى أن الكثير من الدول اللاتينية تعيش أزماتها، كما حال تشيلي، التي اضطرت الأحداث فيها إلى نقل بطولة رياضية إلى البيرو بقرار أميركي لاتيني قبل يومين.
وتعيش القارة اللاتينية موجة تقدم يميني واضحة مع استهداف اليسار في فنزويلا وبوليفيا، وقبلها في البرازيل والأرجنتين. وتعيش طبقات فقيرة في فنزويلا وضعاً اقتصادياً مستحيلاً، أخذ عشرات الآلاف إلى البطالة ودفعهم إلى الهجرة، على الرغم مما ينتجه البلد من نفط. وتصر المعارضة الفنزويلية على استقالة الرئيس نيكولاس مادورو، كما يحصل اليمين على دفعة قوية مع وجود رئيس متشدد هو جايير بولسونارو في البرازيل، الدولة الأكبر في نصف القارة، والمتعاونة بشكل وثيق مع واشنطن.