وفيما يعتبر البعض تعليق المسار القانوني استخداماً لآخر ورقة يملكها المحامون، تؤكد عائلة القيق "أن على الاحتلال أن يفاوض محمد مباشرة إذا أراد حلاً للملف"، فلم يعد تسويف سلطات الاحتلال لكل جهود المحامين يحتمل الصبر أو سعة الصدر، فحياة محمد على محك الموت في كل دقيقة.
وكانت أنباء شبه مؤكدة قد أفادت بقرب وصول محامي القيق، جواد بولس، ونيابة الاحتلال إلى إتفاق يقضي بنقل محمد للعلاج في مستشفى المقاصد في القدس المحتلة على أن يتم الإفراج عنه في مايو/أيار المقبل، لكن الاتفاق يواجه مأزقاً كبيراً بسبب تعنت الإحتلال في الموافقة على بند عدم الاعتقال الإداري مجدداً ما أعاد الأمور إلى 90 يوماً للوراء، يوم قرر القيق بدء إضرابه عن الطعام.
وكان أحد الساعين للوصول إلى اتفاق لإطلاق سراح القيق قد قال في حديث مع "العربي الجديد"، إن "كل تسريب إعلامي يتعامل معه الاحتلال بلؤم كبير، واللحظات الأخيرة للاتفاق عادة ما تشهد (دراما) تتقنها المستويات الإسرائيلية من مصلحة السجون إلى النيابة وجيش الاحتلال ووصولاً إلى المحكمة، لذلك نعمل في صمت وترقب وحذر، فلا أحد يملك توقعاً كاملاً لما ستؤول إليه الأمور".
----------------------------------------
في غضون ذلك، تعمل عائلة الأخير المستحيل لاستصدار تصريح يسمح لها بزيارة ابنها، الذي يصارع الموت في إضرابه المفتوح عن الطعام، والذي وصل اليوم الثلاثاء إلى 91 يوماً.
وفيما تمرّ الساعات ثقيلة على القيق الذي بات في وضع صحي حرج، إذ فقد النطق وحواسّ أخرى، مع اشتباه بتعفن والتصاق في أمعائه، وأضرار فادحة لأعضائه الحيوية، بحيث لم يسمح للأطباء بفحصه للوقوف على وضعه الصحي بدقة أكبر، يعلم القائمون على مفاوضات اتفاق إطلاق سراحه من الجانبين، الفلسطيني والاحتلال الإسرائيلي، أن هذا الإضراب لن يكون الفردي الأخير، وهناك المزيد من أمثال القيق سيخوضون إضرابا مفتوحا عن الطعام احتجاجاً على سياسية الاعتقال الإداري في التوقيت الذي يختارونه بأنفسهم.
وتفيد إحصائيات نادي الأسير الفلسطيني في رام الله بوجود نحو 30 حالة إضراب فردي عن الطعام، احتجاجاً على سياسة الاعتقال الإداري منذ عام 2011 وحتى الآن. غالبية هذه الإضرابات لم تتجاوز 50 يوماً، فيما واصل أسرى آخرون إضراباتهم المفتوحة ليحقق القيق رقماً قياسياً وصل حتى اليوم إلى 91 يوماً، سبقه المحامي، محمد علان، الذي خاض إضراباً العام الماضي وصل إلى 65 يوماً. وسبقهما خضر عدنان، القيادي في الجهاد الإسلامي، بحيث وصل إضرابه إلى 67 يوماً.
الأسيرة عليان... المعركة الأولى
كثيرون لا يعرفون أن مفجر معركة الأمعاء الخاوية احتجاجاً على الاعتقال الإداري هو الأسيرة المحررة، عطاف عليان، والمحسوبة على حركة "الجهاد الإسلامي"، إذ خاضت إضراباً مفتوحاً عن الطعام لمدة 40 يوماً عام 1997 ضد اعتقالها الإداري، ونجحت في تحقيق مطالبها في الإفراج عنها وعدم التمديد.
وتمارس حكومة الاحتلال الإسرائيلي الاعتقال الإداري، بحسب قانون بريطاني بالٍ، يسمح لمحكمة الاحتلال باعتقال قادة الرأي العام، غالباً من أكاديمين وصحافيين وكتاب وناشطين، بذريعة وجود ملف سري، لا يمكن الاطلاع عليه، إلى فترات تبدأ من ثلاثة شهور قابلة للتمديد حتى تصل إلى خمس سنوات.
تباين فلسطيني حول الإضرابات الفردية
وتتباين وجهات نظر الفلسطينين من الإضراب المفتوح عن الطعام، بحيث تدور في أوساط المسؤولين والفصائل آراء ترفض هذه الإضرابات الفردية، بذريعة أنها تأتي في وقت يعاني الشارع فيه من استنزاف كبير في الأولويات، فضلاً عن عدم قدرة الفصائل وصانع القرار الوطني على التوافق حول استراتيجة نضال موحدة، تكون قادرة على جمع النضالات الفردية في بوتقة نضال جماعي مؤثر، مما يحرج القيادة والفصائل، وصولاً إلى عدم وجود وحدة لدى الحركة الأسيرة التي تعاني من مشاكلها وأهمها الانقسام.
لكن مستويات أخرى، وأهمها الأسرى المحررون الذين خاضوا الإضراب الفردي عن الطعام، يرون فيه تحريكاً ثورياً للشارع الفلسطيني، وإعادة جدولة الأولويات للشارع كي لا يغفل وسط انسداد الأفق السياسي، أن قضية الأسرى وتضحياتهم هي الأساس.
وتقول الأسيرة المحررة عليان لـ"العربي الجديد": "أنا لا أستهين بالإضراب الفردي تحديداً في ظل حالة (التراخي) الموجودة، ولا يجوز أن أبقى أقول مقاومة جماعية في ظل واقع يفتقر إلى مقومات المقاومة الجماعية، لذلك تكمن أهمية الإضراب الفردي في إبقائه على عملية (نخر رأس العدو) قائمة".
وترى عليان أنه كثيراً ما تولد حالة تأنيب ضمير عند العديد من الناس، الذين لم يشاركوا في فعاليات إسناد الأسرى المضربين في الشارع، "ومرات كثيرة هذا الإحساس يتحول إلى فعل حقيقي". وتتابع أنّ "هناك من يفضّل أن يكون الإضراب جماعياً، لكن الحركة الأسيرة في المعتقلات تشهد تراجعاً. ومن جهة ثانية، عادة ما يلجأ الأسير إلى إعلان إضرابه المفتوح عن الطعام خلال التحقيق، أي قبل نقله إلى المعتقل، ما يجعل قراره يأتي بعيداً عن تواصل المجموعة".
وترى عليان، والتي تعتبر ملهمة لمقاومات كثيرات في الضفة الغربية، أن "الإضراب المفتوح عن الطعام ليس انتحاراً، بل تجسيد عملي لمقولة: أطلب الموت لتوهب لك الحياة. وتؤكد أن "كل الفتاوى التي تذهب إلى أن الإضراب المفتوح عن الطعام هو انتحار تجافي الحقيقة وقيم الجهاد وهي فتاوٍ مسيسة من أنظمة معروفة".
وحول عدم تبنّي الحركات الفلسطينية، خصوصاً "حماس" و"الجهاد الإسلامي"، سلاح الإضراب المفتوح عن الطعام، تجيب عليان: "في داخل السجن، يتركز الضغط الكبير على أبناء الفصائل الإسلامية، لكن لماذا لا تتبنى هذه الفصائل هذا السلاح؟ أعتقد أن الجواب هو بسبب الوضع السياسي في الخارج، ولسنا في وضع نستطيع أن نأخذ فيه قرارات استراتيجية، لذلك تبقى القرارات التكتيكية هي السائدة عبر إضرابات فردية يخوضها الأسرى".
وتؤكد أن "الحركات الإسلامية ليس لديها قرار مركزي بخوض معركة الإضراب المفتوح عن الطعام، وفي الوقت نفسه تظهر تفهمها لهذا القرار الفردي، وهذا التفهم يتبعه وقوف وتضامن معه". وأمضت عليان أكثر من 10 سنوات في معتقلات الاحتلال، خاضت خلالها أكثر من إضراب عن الطعام وكان أقساها إضراب استمر 40 يوماً عام 1997، رفعت خلاله شعارها المعروف "أريد الحرية ولو شهيدة". وتقول إن "الإضراب عن الطعام هو سلاح المقاومة الوحيد، الذي يمكن استخدامه. والأسير على تماس مع الاحتلال".
غير أن الخبير في شؤون الأسرى ومدير مؤسسة "أحرار"، فؤاد الخفش، يؤكد "أن هناك قرارا داخليا عند حركة (حماس) بعدم توجه أفرادها في السجون نحو الإضرابات الفردية والنخبوية".
ويتابع الخفش لـ"العربي الجديد" أن "هذا اتفاق داخلي معروف لدى أنصار الحركة، مفاده أن من يذهب إلى الإضراب الفردي من الصعب أن ندعمه، وجاء هذا القرار على خلفية الإضرابات الفردية التي خاضها خضر عدنان من (الجهاد الإسلامي)، وحسن الصفدي من حركة (حماس)".
ويُحسب الصحافي القيق على حركة "حماس"، وقد بات اتفاق إنهاء إضرابه عن الطعام في نهاياته، بحيث تؤكد جميع الجهات أن "القيق اتخذ قرار الإضراب المفتوح عن الطعام خلال التحقيق معه، وبعد تهديده بشكل مباشر بأن المخابرات الإسرائيلية ستلجأ إلى تنفيذ أعلى حكم إداري متتالٍ بحقه أي خمس سنوات".
ويعلق الخفش على الإضراب بالقول إن "القيق استطاع أن يحصل على اعتقال لمرة واحدة غير قابل للتمديد، أي أنه لن يمكث خمس سنوات في الاعتقال الإداري بحسب تهديد جهاز (الشاباك) الإسرائيلي. وفي مثل هذه المفاوضات المعقدة والصعبة، لم يفرض الاحتلال شروطه كاملة على القيق، مع الأخذ بعين الاعتبار أن ظروف الهبّة الفلسطينية الحالية، التي يسقط فيها كل يوم العديد من الشهداء، جعلت معركة القيق مع الاحتلال أصعب، مما أخّر عملية التفاوض على اتفاق لإنهاء إضرابه".
ويؤكد مراقبون أنه في ظل عدم وجود أجندة عمل لدى المستوى الرسمي السياسي الفلسطيني لإنهاء الاعتقال الإداري، سيبقى الإضراب المفتوح عن الطعام هو السلاح الوحيد الذي يملكه الأسير الفرد، في انعكاس لمرحلة كاملة بات فيها الفرد هو البطل بعد تراجع المستوى السياسي والفصائل الفلسطينية.
اقرأ أيضاً: محكمة إسرائيلية تعلق اعتقال القيق...والأخير يرفض ويستمر في إضرابه