تأرجحت العلاقات بين التيارات الإسلامية واليسارية في المغرب بين فترات مد وجزر، مع طغيان مراحل توتر حادة عليها خلال حقبة ما بعد استقلال المغرب عام 1956، مع ذلك جمعت الطرفين أهداف سياسية مشتركة، رغم الاختلاف حول طرق ومآلات تحقيقها.
المرحلة الأولى من تاريخ العلاقات بين اليساريين والإسلاميين في المغرب، بدأت في الفترة التي أعقبت استقلال البلاد عام 1956، فلم تكن هناك مواجهات أو صراعات، باعتبار أنها كانت مرحلة خاصة بالعيش في أجواء نيل الاستقلال من الاستعمار الفرنسي. وذابت كل الاختلافات الإيديولوجية في سياق الوطنية وبناء الدولة الحديثة. وظلّت فترة أواسط الخمسينيات حتى أواخر الستينيات من القرن الماضي متسمة بنوع من الهدوء والتروي بين إسلاميين ويساريين، لسبب بسيط هو عدم ظهور الاختلافات الإيديولوجية والسياسية، إذ كانت مختلف الأطياف قد باشرت معركة ما بعد الاستقلال، وباتت جميعها في عالم الهوية والوطنية.
وجاءت مرحلة ثانية ظهرت بشكل بارز في السبعينيات من القرن الماضي، بزغت فيها تيارات إسلامية ويسارية بشكل ملموس، وإن اختلفت طرقها ومطالبها، لكنها التقت جميعها في مواجهة "النظام الحاكم" حينها بقيادة الملك الراحل الحسن الثاني. واتفق يساريون وإسلاميون خلال تلك الحقبة على هدف واحد، تجسّد في تشكيل معارضة شديدة للنظام السياسي الذي كان فيه الملك الراحل حاكماً بقوة حديدية، فالإسلاميون طالبوا بإقامة دولة دينية أو إرساء خلافة إسلامية، بينما كان حلم يساريين تغيير نظام الحكم بالأدوات الماركسية الاشتراكية.
وأول ما عمدت إليه الحركة الماركسية المغربية في فترة السبعينيات من القرن الماضي هو رفضها للانخراط في اللعبة السياسية، وعدم المشاركة في الانتخابات، في ظلّ سعيها إلى إقامة دولة بقيادة العمال وفقاً لأدبياتها ودعواتها من خلال "العنف الثوري". ولوأد هذه الدعوات السياسية والتنظيرات الإيديولوجية التي "هددت" صيرورة النظام السياسي القائم على ملكية تنفيذية مطلقة بقيادة الحسن الثاني، بادر هذا الأخير إلى مواجهتها بخلق جماعات وتيارات إسلامية صوّرت اليساريين بكونهم "شياطين" يدعون إلى الفتنة و"الانحلال".
وانتقلت بعض الجماعات الإسلامية من مرحلة "الدعوة" ومواجهة اليسار الراديكالي والماركسية اللينينية إلى مرحلة دخلت فيها إلى ما يسمى "الثورة الإسلامية"، جسدتها جماعة "الشبيبة الإسلامية"، التي شرعت حينها في المطالبة بنظام إسلامي للحكم.
"الاصطدام" مع المؤسسة الملكية الحاكمة في البلاد كان عنوان تعاطي جماعات إسلامية مع النظام السياسي القائم، وتجلّى ذلك خصوصاً في الرسالة الشهيرة التي بعث بها زعيم جماعة "العدل والإحسان" عبد السلام ياسين سنة 1974 إلى الملك الراحل، عنونها بـ"الإسلام أو الطوفان". وخيّر ياسين الملك الراحل، في عز مواجهات القصر مع معارضيه اليساريين، بين "التوبة إلى الله والتصالح مع شرعه والكف عن الظلم والبطش أو تعرضه لطوفان رباني"، قبل أن تتم مواجهته من طرف السلطات برميه في مشفى للأمراض العقلية، وبعد ذلك في إقامة جبرية دامت سنوات.
ومرّت السنين في سياق مواجهات شرسة بين النظام الحاكم وبين معارضيه من اليساريين وحتى الإسلاميين، إلى أن فطن الحسن الثاني إلى ضرورة استمالة يساريين إلى صف النظام. فتوجهت الدولة نحو مصالحة سياسية مع معتقلين ومُبعدين يساريين، تُوّجت بحكومة التناوب التوافقي ترأسها المعارض اليساري السابق عبد الرحمن اليوسفي سنة 1998، أي قبل عام واحد من وفاة الحسن الثاني، وامتدت إلى حدود عام 2002. وبعد وفاة الملك الراحل سنة 1999، وهي المرحلة التي عرفت علاقات شدّ وجذب بين اليساريين والإسلاميين في مواجهة النظام الحاكم ومؤسسات الدولة، جاء عهد الملك الحالي محمد السادس لتعرف العلاقات بين الطرفين "ودّاً أكثر وتوترات أقل".
ولعل أكثر المحطات السياسية التي أظهرت نوعاً من "التوافق" بين يساريي البلاد وإسلامييها، قبل نفض هذا التوافق وتحوّله إلى ذكريات ماضية، هو حدث الاحتجاجات الشعبية التي عرفتها مناطق مغربية سنة 2011، والتي دعت إليها "حركة 20 فبراير" التي انطلقت في البداية من العالم الافتراضي.
وشهدت احتجاجات "حركة 20 فبراير" حدثاً لافتاً غير مسبوق، عبر الانسجام والالتئام بين يساريين ممثلين في الحزب الاشتراكي الموحد وحزب النهج الديمقراطي، وبين إسلاميين مثّلتهم جماعة العدل والإحسان. واستمر شهر العسل بين التيار اليساري الراديكالي والتيار الإسلامي المعارض، زهاء عشرة أشهر امتدت من فبراير/شباط 2011 إلى ديسمبر/كانون الأول من العام عينه، فوقع "طلاق مؤقت" بين الطرفين بخروج الجماعة من حركة 20 فبراير.
ولأن المعارضة الشديدة المطالبة بتغيير نظام الحكم التي كانت سائدة في سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته قد انتهت، فإن اليساريين والإسلاميين اتفقوا في الألفية الثالثة على ضرورة إصلاح ما يسمونه "المخزن"، أي الدولة التي تحكم بآلياتها الاقتصادية والسياسية النافذة.
وظهرت خلال فترة الربيع العربي، وحتى بعدها، دعوات من اليساريين والإسلاميين بخلق جبهة شعبية موسعة لشمل هذه التيارات، بهدف إحداث "تغيير حقيقي ينهي داء النظام المستأثر بالثروة والسلطة" وفق تعبير هذه الأطياف.
في السياق عينه، ظهر "تحالف" من نوع آخر، هذه المرة على مستوى الأحزاب التي قبلت بالانخراط في اللعبة السياسية، وذلك من خلال الانسجام الكبير الذي أبان عنه حزبا "العدالة والتنمية" ذو المرجعية الإسلامية، و"التقدم والاشتراكية" ذو الخلفية الاشتراكية، والذي كان اسمه سابقاً الحزب الشيوعي. ووضع حزب "التقدم والاشتراكية" يده في يد "العدالة والتنمية" في الحكومة التي ولدت بعد الانتخابات المبكرة لسنة 2011، جراء الحراك المغربي طيلة أشهر. وتحالف الحزبان بشكل وثيق رغم الاختلافات الإيديولوجية بينهما، كما استمر التحالف في الحكومة الثانية بعد انتخابات 7 أكتوبر/تشرين الأول 2016.
وعلى الرغم من اختلاف الحزبين معاً على مستوى الرؤية والمواقف بشأن مسألة الإرث والمساواة بين الجنسين، وملفات حساسة أخرى، غير أنهما استطاعا تجاوز الاختلافات ببراغماتية ظاهرة، والتحالف معاً حكومياً.
بدوره مدّ حزب "العدالة والتنمية" الحاكم جسور الثقة مع يساريين في البلاد، رغم جفاء علاقتهما قبل سنوات مضت، فساند كثير منهم تجربة "العدالة والتنمية" في الحكومة رغم علاتها ومطباتها، فيما لا تنظر جهات داخل الحزب الأغلبي للتقارب الموجود بين هؤلاء اليساريين وبين زعيم الحزب عبد الإله ينكيران والتيار المساند له.