وكانت وزارة الشؤون الخارجية التونسية قد أوضحت في بيان لها، يوم الجمعة الماضي، أنّ قرار إعفاء البعتي يعود لاعتبارات "مهنية بحتة". وقالت الوزارة إنّ مسألة إبعاد البعتي "تتعلق بضعف الأداء وغياب التنسيق والتفاعل (من قبل السفير) مع الوزارة في مسائل هامة مطروحة للبحث في المنظمة الأممية، خصوصاً أنّ عضوية تونس غير الدائمة بمجلس الأمن تقتضي التشاور الدائم والتنسيق المسبق مع الوزارة، بما ينسجم مع مواقف تونس المبدئية ويحفظ مصالحها".
بدورها، أكدت المستشارة الإعلامية لرئيس الدولة، رشيدة النيفر، أنّ إقالة البعتي جاءت على خلفية أخطاء مهنية تتمثل بالأساس في غياب التنسيق والتشاور مع وزارة الخارجية التونسية، وبقية أعضاء المجموعة العربية الموجودة في مجلس الأمن، في ما يتعلق بتوزيع الوثيقة المتعلقة بمشروع القرار الأممي القاضي بإدانة "صفقة القرن"، بحسب تصريح لها لإذاعة "شمس أف أم" المحلية، يوم السبت الماضي. واعتبرت النيفر أنّ ما قام به السفير المُقال "خطأ دبلوماسي جسيم".
وبعد ساعات من الإقالة، قالت الرئاسة التونسية إنّ الرئيس قيس سعيّد تلقى اتصالاً هاتفياً من الرئيس الفلسطيني محمود عباس، تمّ التطرق فيه لمشروع القرار الذي ستقدمه تونس إلى مجلس الأمن حول خطة الإملاءات الأميركية والاتفاق على أن يتم التشاور مع الدول العربية وكل الدول الداعمة لحق الشعب الفلسطيني قبل تقديمه بصفة رسمية إلى المجلس.
وبينما كانت هذه التصريحات تفشل في إقناع كثر بالسبب الحقيقي وراء إقالة البعتي، خصوصاً أنه ليس جديداً على مجال العمل الدبلوماسي ويمارسه منذ أربعة عقود، كذلك يصعب فهم اتهامه بالافتقار للمهنية والتجربة. وتكشف مصادر دبلوماسية غربية أن "العبارات الحادة" التي توجه اتهاماً مباشراً إلى الولايات المتحدة بخرق الشرعية الدولية والقرارات الأممية بشأن الوضع في فلسطين على خلفية "صفقة القرن" كانت سبباً في إعفاء المندوب التونسي لدى الأمم المتحدة من مهامه، وإن كانت الرئاسة التونسية قد سارعت لنفي هذا الأمر.
وتعليقاً على هذه الإقالة، أعرب رئيس مجلس الأمن، السفير البلجيكي مارك بيكستين، الجمعة، عن شعوره بـ"الصدمة والأسف" لقرار إعفاء البعتي. وقال في تصريحات للصحافيين بمقر الأمم المتحدة في نيويورك: "عندما علمت بالخبر شعرت بالصدمة والأسف ولا أعرف السبب في قرار إعفاء البعتي". وتابع قائلاً: "السفير المنصف البعتي هو زميل لنا، ولا أعرف الظروف الخاصة بمغادرته".
هذه الإقالة لمسؤول تابع للخارجية ليست الأولى، إذ تواترت مثل هذه القرارات في الفترة الأخيرة، ولا سيما منذ إطاحة وزير الخارجية خميّس الجهيناوي في نهاية أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. وترافقت الإقالات مع وجود دبلوماسيين كمستشارين لسعيّد، وتحديداً عبد الرؤوف بالطبيب وطارق بالطيب، إذ يظنّ الجميع أنهما وراء هذه التغييرات في السلك الدبلوماسي التونسي. غير أنّ الإقالة الأخيرة تمّت بعد استبعادهما من محيط سعيّد، وسط خلافات خرجت للعلن حول مسائل دولية وأخرى تتعلّق بالسياسة الخارجية بين مستشاري الرئيس، بما يعكس عمق الاضطراب الدبلوماسي التونسي.
وينتظر التونسيون أن ينتهي مسار تشكيل الحكومة ويتم تعيين وزير جديد للخارجية، لتنتهي حالة الفراغ والاضطراب التي تمرّ بها الدبلوماسية التونسية وتتّضح الخيارات نهائياً حيال مختلف القضايا، لكن ذلك قد لا يكون حتمياً في ظل عدم وضوح أسسس الخارجية التونسية في هذه الآونة.
وفي السياق، قال الدبلوماسي، وزير الخارجية الأسبق، أحمد ونيس، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إنّ "السياسة الخارجية التونسية منذ انطلاق العهدة الرئاسية لقيس سعيد تدعو للاستغراب. فالعهدة انطلقت بإطاحة الجهيناوي، ثمّ تلت ذلك إقالات متواترة لدبلوماسيين، على غرار سفير تونس في باريس عبد العزيز الرصاح، نهاية ديسمبر/ كانون الأول الماضي، وصولاً إلى إعفاء غير منطقي لمندوب تونس الدائم في الأمم المتحدة". وأضاف أنّ "تساؤلات عدة تحوم حول هذه الإقالات وأسبابها، بما يوحي بأنّ السياسة الخارجية يقودها تغليب الأهواء على حساب الحكمة والخبرة التي تميّز الدبلوماسيين التونسيين".
ولفت ونيس إلى أنّ "الدبلوماسية التونسية كانت دوماً جريئة وذات مواقف مناصرة للحق ولم تعرف تراجعاً إلا خلال سنوات حكم الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي". وأوضح أن الدبلوماسية التونسية "كانت تسير وفق منهج أسسه رئيس الجمهورية الأسبق الحبيب بورقيبة، في التعامل مع قضايا دولية من بينها القضية الفلسطينية، وذلك على الرغم من ضغط ومعارضة أحياناً من قبل زعماء عرب، وقد ارتكزت على مبادئ الشرعية الدولية والقانون الدولي".
لكنّ الرئيس قيس سعيّد أبدى امتعاضه من بعض مواقف وزارة الخارجية التونسية، واعتبر أحياناً أنها لا ترقى لمواقفه من بعض القضايا، ومن بينها "صفقة القرن". وأكد سعيّد في حوار للتلفزيون التونسي الرسمي، نهاية الشهر الماضي، أنّ "صفقة القرن هي مظلمة القرن وغير مقبولة"، معتبراً أنّ "فلسطين ليست ضيعة حتى تكون موضوعاً لصفقة". ولفت إلى أنّ الشعب التونسي "ملّ من البيانات التي تبحث عن مصطلحات دبلوماسية"، مؤكداً أنه "غير راضٍ عن بيان الخارجية التونسية حول صفقة القرن" وأنه "تدخّل لإصلاح الخطأ".
ودخل ملف التطبيع بقوة على ملفات الدبلوماسية التونسية أخيراً. وفي هذا الإطار، قالت وزارة الخارجية، في بيان يوم الأربعاء الماضي، إنّ "أي شكل من أشكال العلاقات مع الكيان الصهيوني حتى وإن تعلّق الأمر بمقابلات رياضية مرفوض". وأوضحت الخارجية أنّ خوض المنتخب الوطني لتنس السيدات "مباراة مع منتخب كيان الاحتلال الإسرائيلي في إطار بطولة كأس الاتحاد الدولي للتنس في هلسنكي، يعتبر تجاوزاً لتعهدات تونس والتزاماتها التاريخية إزاء القضية الفلسطينية العادلة". كما اعتبرت المشاركة "مخالفة للموقف الرسمي للدولة التونسية الداعم والمساند لحقوق الشعب الفلسطيني الشقيق في إقامة دولته المستقلة على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، على أساس قرارات الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية".
ويبدو أنّ سعيّد يعيش ارتباكاً وأنه غير قادر على التوفيق بين ما يؤمن به ومتطلبات الواقع، بسبب غياب أدوات دبلوماسية وخبرة ضرورية لمعالجة ملفات مشتعلة، مثل التعاطي مع الجانب الأميركي والقضايا العربية المتراكمة، كفلسطين وليبيا والتطبيع مع الاحتلال، فضلاً عن الداخل التونسي وقضاياه العديدة وارتباطه بالمؤسسات والدول المانحة، وتداخل ذلك مع المواقف السياسية والدبلوماسية للدولة.
هذا الوضع أدى إلى حالة من الارتباك الكبير وتسبّب بانتقادات متعددة لسعيّد، آخرها من رئيس حركة "النهضة" رئيس مجلس نواب الشعب راشد الغنوشي، الذي اعتبر أنّ "رئيس الجمهورية أخطأ بالتخلّف عن حضور منتدى دافوس الاقتصادي، ومؤتمر برلين حول ليبيا، والمؤتمر الحواري المتوسطي في روما".
واعتبر الغنوشي في حوار صحافي، الأربعاء الماضي، أنّ "الغياب عن المؤتمرات الدولية سينقص من رصيد رأس المال المعنوي لتونس"، قائلاً: "تونس بلد صغير رأسمالها التراث والثقافة والصورة الجميلة ويجب ألا تغيب عن العالم". وأشار الغنوشي إلى أنّ سعيّد "اجتهد عندما اعتبر أن الدعوة لحضور مؤتمر برلين حول الأزمة الليبية لم تصله باكراً، وتونس يليق بها أن تكون في مقدمة المدعوين، ما دفعه إلى رفض الحضور، معللاً ذلك بأنّ الوضع الحكومي غير مستقر ولا يمكنه السفر والوضع مضطرب، وهي وجهة نظر نحترمها".
وأمام هذا الاضطراب الرئاسي في تونس، تحوّل البرلمان تقريباً إلى منصة دبلوماسية للعديد من السفراء الأجانب في البلد. واستقبل الغنوشي في الأسابيع الأخيرة تباعاً، وفوداً وزارية من الكونغو والسنغال وجمهورية أفريقيا الوسطى والنيجر، وسفراء كندا والولايات المتحدة الأميركية والهند والعراق، بالإضافة إلى وفد من اتحاد المحامين العرب، ونائب رئيس المجلس الوطني السنغالي، والأمين العام لمؤسسة "هانس زايدل" الألمانية، أوليفي يورغ.
كما شارك في الجلسة العامة لمؤتمر اتحاد مجالس الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي في واغادوغو عاصمة بوركينا فاسو، نهاية يناير الماضي، والمؤتمر الطارئ للاتحاد البرلماني العربي لدعم القضية الفلسطينية في الأردن، السبت الماضي، وغيرها من اللقاءات الأخرى، بما أعاد من جديد اللغط حول التنافس بين الغنوشي وسعيّد. غير أنّ رئيس البرلمان اعتبر الأحاديث في هذا الشأن "من باب الصيد في المياه العكرة".