انتهت في السابعة من مساء أمس الأحد، رسمياً، الدعاية الانتخابية للانتخابات في إسرائيل، التي تجري غداً الثلاثاء، من دون أن يعني ذلك، ربما للمرة الأولى في معارك الانتخابات الإسرائيلية، وقف الدعاية فعلياً، إذ توفر منصات التواصل الاجتماعي فرصة للأحزاب لمواصلة دعايتها الانتخابية الحزبية المعفية من أي قيود رسمية.
وقد امتازت معركة الانتخابات الحالية، خلافاً عن سابقاتها في إسرائيل، بثلاثة عناصر أساسية، أولها تحول التحريض العنصري ضد الفلسطينيين في الداخل إلى رسالة انتخابية شرعية وطبيعية. والثاني هو استخدام وسائل التواصل الاجتماعي كعامل رئيسي في المعركة الانتخابية لا يحصر وقت الدعاية الحزبية في وقت محدد (كما كان الحال سابقاً في 35 دقيقة للدعاية التي يتم بثها في القنوات التلفزيونية وعبر موجات الأثير) وتحولها إلى ميدان حرب وسجال من دون أية ضوابط أخلاقية أو قانونية. والثالث، هو صناعة الأخبار الكاذبة "فايك نيوز".
تحريض عنصري ونزع شرعية العرب
وقد بدأت المعركة الانتخابية في إسرائيل عملياً عبر رسائل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الدعائية، الموجهة أساساً في البداية لتوحيد معسكر الليكود واليمين عموماً ضد اليسار، على خلفية انتهاء تحقيقات الشرطة في ملفات الفساد التي تلاحقه، وقبل إعلان الائتلاف الحكومي برئاسة نتنياهو رسمياً عن قرار حل الكنيست والتوجه لانتخابات جديدة، وهو القرار الذي اتخذه الائتلاف الحكومي في 24 ديسمبر/كانون الأول 2018، في محاولة ناجحة من نتنياهو لاستباق تقديم لوائح اتهام رسمية ضده، رغم إعلان المستشار القضائي للحكومة أفيحاي مندلبليت لاحقاً عن قراره تقديم لوائح اتهام رسمية ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي شرط إجراء جلسة استماع مسبقة، بعد الانتخابات في يوليو/تموز المقبل.
وقد استهل نتنياهو المعركة الانتخابية عملياً، في 27 ديسمبر الماضي، باعتماد استراتيجية واضحة أعلنها بعبارة قصيرة رداً على إعلان الجنرال بني غانتس، ترشيح نفسه لخوض الانتخابات. وعلق نتنياهو يومها بالقول إنه "لا يتدخل في تحديد هوية مرشحي اليسار". وكانت هذه العبارة بمثابة لازمة عاد نتنياهو ورددها لاحقاً عند تشكيل التحالف الثلاثي بين حزب غانتس وحزب "ييش عتيد" وحزب الجنرال موشيه يعالون والإعلان عن تحالف "كاحول لفان". وكرر نتنياهو نفس المقولة مطلع يناير/كانون الثاني الماضي، عندما أعلن زعيم حزب "العمل" وبشكل مفاجئ ومهين، خلال جلسة لكتلة "المعسكر الصهيوني"، عن فك الشراكة مع تسيبي ليفني. وقد نجح نتنياهو على مدار شهر كامل على الأقل في إدخال التحالف الثلاثي الجديد في حالة دفاع عن النفس لنفي "وصم" اليسار عنه. وأعلن قادة الحزب مراراً أنه ليس يسارياً بل إنه يمثل "الليكود" القديم والمنضبط والمتزن المسؤول، الذي مثله مناحيم بيغن، زعيم "الليكود" التاريخي الذي حقق أول انقلاب سياسي في الحكم في إسرائيل عندما انتصر على حزب "العمل" في العام 1977، وشكل أول حكومة يمين أقصت الحركة العمالية عن الحكم.
لم يتوقف نتنياهو عند هذا الخط، بل طوره ليبدو اليوم أنه عمل وفق خطة دعائية ثابتة انتقلت من مرحلة إلى أخرى. ففي فبراير/شباط الماضي، وبعد أن أرجأ زيارة رسمية إلى موسكو لتثبيت وضمان تحالف أحزاب اليمين الديني المتطرفة "البيت اليهودي"، و"الاتحاد القومي" و"عوتصماه يهوديت"، دافع نتنياهو عن حرصه على وحدة الأحزاب الثلاثة المذكورة (بالرغم من أن أحدها وهو "عوتصماه يهوديت" لا يخفي مشروعه العنصري والفاشي الذي يتبنى مواقف الحاخام الأميركي الأصل مئير كهانا ويطالب بطرد العرب من وطنهم) بمهاجمة اليسار والوسط في إسرائيل، مدعياً أنهم يهاجمون أحزاباً صهيونية بينما يسعون للتحالف مع الأحزاب العربية، التي اتهمها نتنياهو بأنها تسعى لإبادة الدولة وتعمل ضد أمن إسرائيل.
وفي 23 فبراير/شباط، صعّد نتنياهو من التحريض ضد العرب، خصوصاً ضد حزبي التجمع الوطني الديمقراطي، الذي أسسه المفكر العربي عزمي بشارة، والحركة الإسلامية، مدعياً أنه يعتمد على تقرير للصحافي اليميني الإسرائيلي عميت سيغل، الذي كان نشر، الجمعة 21 فبراير، تقريراً تحريضياً ومليئاً بالأكاذيب، يستهدف خصوصاً بشارة وحزب التجمع الوطني. كما تضمن التقرير أكاذيب وتحريضاً ضد الشيخ رائد صلاح. وكرر نتنياهو خلال يناير/كانون الثاني وفبراير نزع الشرعية عن الأحزاب العربية، فيما كان التجمع الوطني ينتظر قرار المحكمة الإسرائيلية السماح له بخوض الانتخابات، بعد أن كانت لجنة الانتخابات المركزية شطبت حزب "التجمع" وقررت منعه من خوض الانتخابات، وهو ما رفضته المحكمة العليا.
وبدلاً من رد ادعاءات نتنياهو، علق حزب غانتس على التحريض بمحاولة المزايدة على نتنياهو، وادعى غانتس أن الأحزاب العربية وقيادتها لن تكون شريكة له، وأنه لن يتعامل مع أحزاب غير صهيونية وأحزاب تهاجم الدولة وتعمل ضد أمنها. وكان سبق لشريك غانتس في قيادة الحزب يئير لبيد، أن أعلن في الانتخابات الماضية وبعدها أن حزبه "لن يتعاون مع الزعبيين"، في إشارة إلى النائب الفلسطينية عن حزب التجمع الوطني الديمقراطي حنين زعبي، التي كانت شاركت في مايو/أيار 2010 في أسطول الحرية على متن السفينة "مافي مرمرة"، ولم تتوقف عن قول موقف التجمع الوطني الثابت بتجريم جنود الاحتلال ووصفهم على منصة الكنيست بأنهم قتلة ومجرمو حرب. ولم يقف التحريض على العرب وأحزابهم عند نتنياهو، بل تعداه بطبيعة الحال إلى بقية أحزاب اليمين، ومنها "يسرائيل بيتينو" بقيادة أفيغدور ليبرمان، وتحالف أحزاب اليمين الدينية. ووصل الأمر حد قيام عضو كنيست يدعى أورن حزان باستلهام الفيلم الهوليودي "الجيد والسيئ والبشع" لتصوير مقطع يقوم به حزان بإطلاق النار على رئيس حزب التجمع الوطني وعضو الكنيست جمال زحالقة.
الحرب على شبكات التواصل والأخبار الكاذبة
في مطلع يناير، وخلال محاضرة له في تل أبيب، حذر رئيس جهاز الاستخبارات الإسرائيلية "الشاباك" نداف أرغمان من أن دولة أجنبية قد تستخدم وسائل التكنولوجيا الجديدة لشن حرب "سايبر" لتعطيل الانتخابات الإسرائيلية، أو التلاعب بنتائجها ومحاولة التأثير على الرأي العام الإسرائيلي. ومع أن هذا التحذير حظي بردود فعل واسعة في إسرائيل، إلا أن ما تكرس في الانتخابات هو بالذات الحرب الدعائية على شبكات الإنترنت، وشبكات التواصل الاجتماعي بعد أن رفض حزب "الليكود" رسمياً التوقيع والالتزام بعدم إدارة معركة انتخابية على شبكات التواصل والإنترنت، بدون توقيع رسمي على النصوص التي يبثها الحزب. وقبل أسبوع كشفت صحيفتا "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية و"نيويورك تايمز" الأميركية فضيحة وهي أن "الليكود" أقام عملياً شبكة من الذباب الإلكتروني قامت بنشر أكثر من مليون رسالة انتخابية ومعلومات دعائية لنحو مليونين ونصف المليون إسرائيلي. واضطر حزب "الليكود" بعد ذلك بيومين إلى الاعتراف بأن الشبكة له. لكن الحديث لا يدور عن ذباب إلكتروني، وإنما عن شبكة واسعة من النشطاء الذين يتلقون رواتب وأجر مرتفع مقابل تفعيل هذه الشبكة.
وفي هذا السياق، كان "الليكود" وراء بث ونشر معلومات خاطئة ومضللة، منها مثلاً الادعاء أن غانتس شارك في اجتماع عقده نشطاء يهود وعرب في جنوب إسرائيل، ادعى الحزب أنه كان لذكرى "إرهابيين من حماس"، وهو ما اتضح أنه غير صحيح على الإطلاق. كما عمم "الليكود" دعاية اتهم فيها زوجة غانتس بأنها ناشطة في جمعية "يكسرون الصمت" التي ينشر أفرادها شهادات جنود يتحدثون عن انتهاك حقوق الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وحاول الحزب في بدايات المعركة الانتخابية الترويج لادعاءات إسرائيلية تعيش في الولايات المتحدة زعمت أن غانتس حاول التحرش بها عندما كان الاثنان في المرحلة الثانوية من تعليمهما، في مدرسة تدعى "كفار هيروك"، وتبين لاحقاً أن من تلقف وشجع السيدة هو مدير مكتب وزيرة العدل أيليت شاكيد، التي أسست مع نفتالي بينت قبل شهرين حزب "اليمين الجديد". وقد تم دحض هذه الاتهامات ضد غانتس كلياً.
في المقابل، لم يسلم زعيم حزب "اليمين الجديد" نفتالي بينت نفسه من محاولات "الليكود" المس به وبزوجته، عندما ادعت منشورات للحزب، أن زوجة بينت، المعروف بأنها علمانية خلافاً لزوجها، الذي كان قبل تأسيس الحزب الجديد زعيم حزب "البيت اليهودي"، عملت في مطعم "غير كوشير"، أي يبيع مأكولات لا يجيزها الشرع اليهودي، مثل فاكهة (ثمار) البحر. وكشف الأسبوع الماضي رسمياً عن رسالة بخط يد زوجة نتنياهو، سارة تطلب فيها معلومات محرجة ضد زوجة نفتالي، ومعلومات يمكن استغلالها ضد بينت وحزبه الجديد. كما استغل "الليكود" حادثة اختراق الاستخبارات الإيرانية لهاتف غانتس، للادعاء بأنه كان محملاً بملفات شخصية وصور محرجة له وهو ما يجعله عرضة للابتزاز من قبل الإيرانيين. وفي غياب المهرجانات الانتخابية الشعبية في الانتخابات الحالية، انتقلت الحرب الدعائية إلى شبكات التواصل الاجتماعي، ولا سيما "واتساب" و"فيسبوك"، حيث تشهد الساحتان حرباً ضروساً بين مختلف نشطاء الأحزاب. ويتضح من تقارير مراقبة مختلفة أن 37 في المائة من مضامين هذه الحرب هي تحريض ضد العرب، ونحو 30 في المائة ضد أحزاب اليسار، وسط تغييب كلي لملفات الفساد التي تلاحق نتنياهو.
الاستيطان وغياب موضوع السلام
في العام 1996 عندما تنافس نتنياهو على رئاسة الحكومة مع شمعون بيريس، اختار شعاراً انتخابياً يقول "أمن شخصي، وسلام حقيقي، فقط الليكود يمكنه تحقيق ذلك". وقد عكس ذلك محاولة من نتنياهو لدرء الادعاءات ضده في أوج الصدمة التي حلت بالمجتمع الإسرائيلي بعد اغتيال إسحاق رابين في نوفمبر/تشرين الثاني العام 1995، على خلفية اتفاق أوسلو، والقول إن "الليكود" هو الوحيد القادر على تحقيق سلام مع العرب والفلسطينيين، ولكن خلافاً لسلام أوسلو، من خلال ضمان الأمن العام لإسرائيل والأمن الشخصي للإسرائيليين، في إشارة لانعدام الشعور الشخصي لدى الإسرائيليين بالأمن بفعل موجة العمليات الفدائية التي شنتها حركة "حماس" خلال المعركة الانتخابية. لكن نتنياهو اختار في الانتخابات الحالية إقصاء أي ذكر لموضوع السلام ومسألة التسوية الإقليمية والسلمية، والاستعاضة عن ذلك بشعار "نتنياهو يمين قوي". في المقابل يقول شعار دعائي مكمل لحزب "الليكود"، موجه ضد حزب غانتس إن "غانتس ولبيد هما يسار... يسار ضعيف". ويبدو الشعار الأخير أكثر فاعلية من شعار حزب "كاحول لفان" بقيادة غانتس: "إسرائيل قبل كل شيء".
إلى ذلك، يركز نتنياهو على مقولة عدم وجود شريك فلسطيني من جهة، وترديد حقيقة أن مكانة إسرائيل الاستراتيجية بفعل وجود الرئيس الأميركي دونالد ترامب في البيت الأبيض هي أفضل ما يمكن أن يكون. وبالتالي فإن ما بعد الانتخابات سيشهد بدء فرض السيادة الإسرائيلية على المستوطنات الإسرائيلية المختلفة في الضفة الغربية، وإن حالة الفصل القائمة بين غزة والضفة هي مصلحة لإسرائيل، ويمكن أن تمنع إقامة دولة فلسطينية. وقد ألزمت هذه المقولة حزب غانتس، وفي سياق محاولات تأكيد كونه حزب يمين وليس حزب يسار، أن يعلن أن "كاحول لفان" سيسعى في ظل عدم وجود تسوية أو مفاوضات إلى تعزيز الاستيطان في الكتل الاستيطانية وفي الجولان المحتل، وعدم التنازل أو الانسحاب من الجولان ومن القدس. وأدى هذا عملياً إلى تغييب موضوع السلام أو طروحات لتسوية سلمية، سواء مع العالم العربي ككل أو مع الشعب الفلسطيني، عن المعركة الانتخابية الحالية، وهي حالة لم يسبق لها مثيل حتى في الانتخابات الأخيرة، عندما كان نتنياهو يطرح تصور "التسوية الإقليمية" والوصول إلى سلام مع الدول العربية أولاً ثم التقدم نحو المسار الفلسطيني.