لا أعظم ولا أجلّ من موت في سبيل ما تؤمن به. بهذا خطّ جميع العظماء بصمتَهم، ومن خلاله خُلّدوا في سجل الخالدين. لا مكان لزهران في وجدان المتطرفين، فهؤلاء فقدوا وجدانهم، ولا مكان له في قواميس الثورات المؤسطرة، تلك التي تكتب من دون أن تصنع. عاش زهران سنواته الأخيرة، وقد حمّلناه جميع أخطائنا. انتقدناه، وكان يجب أن ننتقده، لكنه لم يكفّرنا كما هو حال الدواعش والغلاة، ولم يقصِنا كما فعل المتشبهون بالليبراليّة واللائكية المتطرفة، واليسار الرثّ.
لم يكن زهران نموذجًا ثوريًا يحتذى بمفاهيمنا، فهو لم يفكر في ذلك ولم يهتمّ به إلا في السنة الأخيرة. تفهَّمَنا أكثر مما تفهمناه، قرأ خربشاتنا المعيارية القاسية، وكان من البراغماتية أن تخلى عن أيديولوجية شاملة أقل فائدة لها أنها تهون موته ورفاقه في سبيل الثورة. كان ديكتاتوريًا في نظرنا، وقائدًا استثنائيًا في نظر رفاقه. ثورته لا تشبه ثورتنا المتخيلة، لكنه هذّب ثورة الريف والأطراف التي لا تعبر عن نفسها عندما تتسلح إلا بالانتقام، وأطّرها في مقاومة مسلحة منظمة صمدت في وجه الاحتلالين الإيراني والروسي، والدواعش.
ربما يؤخذ زهران بعدة مآخذ، ولكنها لا تقارن بما نؤاخذ به أنفسنا، وما يؤاخذ به القاعدون، والمنظرون، على الأقل ما استطعنا العيش ساعات في حصار عاشه سنوات ثلاثاً. قصف دمشق، وفي هذا خطأ. نظروا إليه كأمير حرب "إسلامي" مع أنّ صرخته كانت أقلّ عنفًا من صرخة غيفارا المؤسطر ضد التفاوت الطبقي، وانتهازية البرجوازية الطفيلية. ولم يشفع له أنه وحده، ودون غيره، أنقذ دمشق من غزو داعشي كان وشيكًا في لحظة من اللحظات. ضيّق على النشطاء واتُّهم باختطاف بعضهم، وفي هذا خطأ وإثم إن ثبت، لكنه مأسس العمل العسكريّ، وهو الذي حدّ، بالقوة، من ظاهرة تكاثر الكتائب، والمسميات.
لم يكن القضاء الموحد نموذجنا المعياري لدولة العدل والحق، لكنه أفضل الموجود. أضف إلى ذلك أنّ علوش وجيشه كان الأقل تلقيًا للدعم مقارنة بفصائل الشمال الكبرى، أو الجبهة الجنوبية بل مقارنة بجبهة النصرة، ومنظريها الذين طالما زايدوا عليه، واتهموه بالعمالة. تعرّض الجيش، وعلوش لحملة إعلاميّة ضده، شاركت فيها عدة وسائل وقنوات تلفزيونية من ضمنها وسائل مؤيدة للثورة.
ضمن معرفتي المحدودة، لم يحصل جيش الإسلام في الأشهر الستّة الأخيرة على أكثر من خمسة ملايين دولار، وهو مبلغ زهيد لا يغطي لأسابيع معدودة حاجيات الغوطة عسكريًا، ومعيشيًا. من منظور ثورة الأطراف والريف، وسطوة الجهاديين، كان جيش الإسلام النموذج الأقرب لثورتنا وأهدافها، تصالح مع علم الثورة ورايتها، ولم يمانع يومًا في تغيير اسم الجيش إذا انتفت الحاجة إلى التعبئة الأيديولوجية اللازمة للقتال والسلاح.
والديمقراطيّة التي كانت تحت قدميه قبل فترة، أقر بها، ووقع على بيان يدعو لاعتمادها، وهذا ما طالبنا به، ولست معنيًا هنا بالكشف على قلوب الأشخاص، ومدى إيمانهم بها، فالله وحده يعلم ما في القلوب. لم نتردد في نقد زهران وقت حياته، وهذا واجبنا، ولن نتردد في رثائه وتخليده بطلًا وطنيًا لا تقل رمزيته عن الخراط، وسائر المقاومين في سبيل الاستقلال والتحرير.
وأخيرًا، بنى زهران علوش تنظيمًا مسلّحًا يعتمد المؤسساتية، والتراتبية العسكريّة الصارمة، وربطه بمرجعية سياسية وقضائية. لذلك، وإن تخبط "جيش الإسلام" في المدى المنظور نتيجة فقدان كاريزما علوش، فإنّ ما بناه الشيخ سيبقى راسخًا، وسيستمر الجيش في مقاومته بقاءً أقوى، مستندًا إلى تضحيات مقاتليه وقائده، وسيكون مقتله مقتلةً لقاتليه مهما اشتدت النوائب، وتحزب المتحزبون ضدّ الثورة والشعب السوري.
اقرأ أيضاً: سلسلة معارك لـ"جيش الإسلام" قلّصت تواجد "داعش" قرب دمشق