تتعقد العلاقات التركية ــ الأوروبية بوتيرة متسارعة. وكأن عناوين الأزمات تتوالد مع الاقتراب من تاريخ 16 أبريل/نيسان الحالي، موعد الاستفتاء التركي على التعديل الشامل للدستور. استفتاء جاهرت عواصم أوروبية عديدة بالإعراب عن أملها بفشله، أي بظهور رفض شعبي تركي للانتقال من نظام برلماني إلى نظام رئاسي.
تتلاحق أزمات تركيا مع أوروبا، من الدعوة إلى إعادة العمل بعقوبة الإعدام في تركيا، الذي جرى الحديث عنها بعد حصول محاولة الانقلاب الصيف الماضي، مروراً بمشكلة منع وزراء ونواب أتراك من دخول دول أوروبية لإحياء مهرجانات سياسية للجاليات التركية في أوروبا، والسماح بمهرجانات سياسية لخصوم الحكومة التركية، وصلت الأزمات الأوروبية ــ التركية اليوم إلى عنوان شديد الحساسية: الضباط المتهمون بالاشتراك في محاولة انقلاب يوليو/تموز الماضي، ممن طلبوا ونالوا حق اللجوء السياسي في دول تنتمي، مثل تركيا، إلى حلف شمال الأطلسي.
وقد أعلن أخيراً في العاصمة النرويجية أوسلو، أن 4 من الضباط الأتراك، بالإضافة إلى ملحق عسكري، رفضوا أوامر من أنقرة بالعودة إلى بلدهم. وبحسب ما ذهبت إليه الصحف النرويجية فإن هؤلاء الضباط تقدموا بطلب لجوء منذ الصيف الماضي. صحيفة يسارية نرويجية تشير إلى أن الضباط الأتراك كانوا متمركزين في النرويج ضمن حلف شمال الأطلسي، وفقاً لما يقوله محامي هؤلاء للصحيفة. ويرفض العسكريون الأتراك أن يكون لهم أية علاقة بمحاولة الانقلاب التي شهدها بلدهم مساء 15 يوليو/تموز 2016. وفي يناير/كانون الثاني الماضي، كانت السلطات النرويجية ما تزال تجمد طلباتهم خشية مما وصفته الصحف النرويجية، نقلاً عن مصادر في الحلف الغربي، بالموقف الصعب الذي تجد فيه أوسلو نفسها، فمن ناحية هؤلاء ضباط في حلف شمال الأطلسي إن لم تحمهم من السجن والتعذيب فأنت في ورطة، ومن ناحية ثانية إن فعلتَ ذلك، تكون في ورطة أخرى في العلاقة مع تركيا.
الورطة يؤكدها سكرتير المجلس الأوروبي، الجنرال النرويجي ثوربيورن يالاند، لموقع صحيفة "في.غي"، موضحاً أن "الأمين العام لحلف شمال الأطلسي يانس ستولتنبيرغ (وهو سياسي نرويجي سابق) كان واحداً من أوائل داعمي الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في مواجهة محاولة الانقلاب، ورفض أي حديث عن طرد تركيا من الحلف، والآن على النرويج أيضاً أن تقرر ما إذا كانت ستمنح هؤلاء اللجوء على ضوء تأجج العلاقة بين تركيا والغرب". ما زاد المشهد تعقيداً كان تعرض أوسلو لهجمة سياسية وإعلامية تركية. فقد استدعت وزارة الخارجية التركية، أخيراً، السفير النرويجي في أنقرة. وبحسب وكالة الأنباء النرويجية "ان تي بي" فإن الأتراك "عبروا عن عدم قبولهم تصرفات أوسلو ودعمها كحليف لأشخاص تم استدعاؤهم من الخدمة". وتطالب أنقرة بتسليم هؤلاء الضباط والملحق العسكري. وانتقد نائب رئيس الوزراء التركي، نعمان كورتولموش، بعنف الخطوة النرويجية، معتبراً أن "هذا (منح لجوء للعسكريين) غير مقبول أبداً. هذا شيء خاطئ. ويعتبر حماية لعصابة فيتو (وصف لجماعة فتح الله غولن في تركيا)". وتصر تركيا على لسان كورتولموش على "تسليم فوري لأفراد العصابة الذين تقدموا أو يريدون التقدم بلجوء".
تأزم العلاقة مع أكثر من دولة
ليست أوسلو وحدها من يعيش هذه "الورطة" مع تركيا هذه الأيام. إذ تكشف تصريحات ساسة أوروبيين أن "عسكر تركيا الذين يتواجدون في دول أوروبية تسببوا في تعميق الأزمة من خلال طلبات اللجوء". ففي ألمانيا وحدها، يتواجد 136 تركياً يخدمون في حلف شمال الأطلسي، بينهم 40 ضابطاً عسكرياً ودبلوماسياً، ممن طلبوا اللجوء إليها. ورغم أن برلين وعدت بأن يأخذ الأمر مساراً قضائياً وليس سياسياً، إلا أن الغضب التركي يتزايد مع رفض إعادة هؤلاء إلى بلدهم.
وباستمرار التصريحات التركية المنزعجة من سياسة برلين، والتي باتت أيضاً تحمل نذر أزمة أعمق في حال إقرار منح اللجوء للعشرات من الأتراك، لم يتردد نائب رئيس حزب المستشارة الألمانية، أنغيلا ميركل، "الاجتماعي الديمقراطي"، فولكر بويفر، بالقول، في حديث إذاعي في 21 مارس/آذار، إنه "لا أردوغان ولا ممثلي حكومة تركيا مرحب بهم في ألمانيا". وجاء ذلك التصريح في أعقاب نقل بعض وسائل الإعلام رغبة أردوغان بالقدوم إلى ألمانيا، نهاية الشهر الماضي، للالتقاء بالجالية التركية، قبيل الذهاب نحو التصويت في استفتاء التعديلات الدستورية. وكان رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية الألماني (بي أن دي)، برونو كاهل، قد صرح لصحيفة "دير شبيغل"، أن "السلطات التركية لم تتمكن من إقناعنا بأن فتح الله غولن كان وراء محاولة الانقلاب. لقد حاولت تركيا على مستويات عدة لكنها لم تنجح". تصريح كاهل أتى في أعقاب اتهامات صدرت في أنقرة، في التاسع عشر من الشهر الماضي، تتهم برلين بـ"دعم الانقلاب العسكري" وانتهاج سياسة تكثف من "تركوفوبيا" (الرهاب التركي) بحسب ما ذهب إليه مستشار الرئيس التركي، إبراهيم كالين في حديث مع "سي أن أن تورك".
ما يكشفه السجال بين الجانب التركي والألماني أن "المسألة تتجاوز منع سياسيين أتراك من عقد لقاءات انتخابية، فهناك شكوك في أنقرة بأنها تحمي انقلابيين ودبلوماسيين عصوا أوامر العودة"، وفقاً لمصدر سياسي غربي تحدث إلى "العربي الجديد" عن توسع التوتر، وبروز مسألة منح هؤلاء اللجوء من عدمه. وفي ذات الاتجاه، بدأ التوتر يتفاقم مع الجارة اليونان، التي رفضت في يناير/كانون الثاني الماضي، تسليم ثمانية من الضباط الذين هربوا إليها عقب محاولة الانقلاب. وفي الولايات المتحدة الأميركية، تقدم أكثر من 20 ضابطاً من الأتراك المتمركزين في مركز قيادة حلف شمال الأطلسي في فرجينيا بطلبات لجوء، بعد الطلب منهم بالعودة إلى بلدهم إثر المحاولة الانقلابية. وفي بلجيكا تقدم أكثر من 100 عسكري تركي، وبعض المصادر تقول، إن الرقم وصل إلى أكثر من 200، بطلبات لجوء. الرقم يعتبر كبيراً بسبب تواجد هؤلاء في مقر الحلف في ضواحي بروكسل. أمر يثير التوتر أيضاً في العلاقة بين بروكسل وأنقرة، بالإضافة إلى ما يصفه مراقبون "توتر مع الحلف الذي يقبل أن يحمي متهمين بمحاولة انقلاب في دولة حليفة وأساسية".
أما في هولندا، التي شهدت توتراً غير مسبوق في العلاقة بين الطرفين عشية الانتخابات الهولندية، فإن عدداً غير محدد من الضباط والدبلوماسيين الأتراك تقدموا بطلبات حماية في هولندا منذ الأيام الأولى التي أعقبت محاولة الانقلاب. ويعزو كثيرون تزايد التوتر بين الطرفين إلى أن أمستردام منحت بعض هؤلاء حق الإقامة المؤقتة لمدة عام ونصف العام فقط، في الوقت الذي تجري دراسة طلبات لجوئهم. بالإضافة إلى تلك الدول الأطلسية، فإن عدداً من الدول الأخرى، وبينها السويد غير العضو في الحلف، شهدت تقديم العشرات من العسكريين والموظفين الحكوميين طلبات حماية ولجوء فيها. ويرى عدد من الأتراك، وخصوصاً من أعضاء فروع حزب العدالة والتنمية، ومن المؤيدين للرئيس التركي في أوروبا، أن "التصرفات الغربية التي باتت تتحدث علانية عن طلبات لجوء هؤلاء، هي جزء من الضغوط الممارسة على تركيا".