تعيش ثلاثة أحزاب سياسية مغربية كبيرة في الوقت الراهن "أزمة" على مستوى قيادتها، وهي "العدالة والتنمية" الذي يقود الحكومة بعد تصدره الانتخابات البرلمانية في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، و"الأصالة والمعاصرة" (معارض) الذي جاء ثانياً في الانتخابات، ثم "الاستقلال" (معارض) الذي تبوأ المرتبة الثالثة في الانتخابات التشريعية الماضية.
وعلى غرار حزب العدالة والتنمية، أصابت غريمه حزب الأصالة والمعاصرة رياح "الأزمة" في قيادته، مع اختلاف السياقات والظروف والمآلات السياسية، إذ كانت نقطة التحول الكبرى في مسار الحزب هذه السنة إعلان زعيمه، إلياس العماري، استقالته من قيادة هذه الهيئة السياسية التي تأسست في عام 2008. وفاجأ العماري في أغسطس/آب الماضي الرأي العام السياسي في المغرب بقرار استقالته من رئاسة حزب الأصالة والمعاصرة، معزياً ذلك إلى قصور في أداء منتخبين وبرلمانيين من الحزب، جراء غيابهم عن حضور جلسات البرلمان ولجانه الدائمة، لكنه أكد في المقابل أنه سيظل عضواً داخل الحزب. استقالة العماري تم تفسيرها بتأويلين اثنين، الأول أخذ بظاهر كلامه وبما صرح به من أسباب، مفادها إحباطه من أداء برلمانيين ومنتخبين في الحزب، ما جعل كثيرين يشيدون بخطوته السياسية، ويصفونها بالشجاعة والجريئة، خصوصاً أنها جاءت مباشرة بعد خطاب للعاهل المغربي، الملك محمد السادس، هاجم فيه الطبقة السياسية ومسؤولين ومنتخبين ودعاهم إلى الانسحاب والاستقالة. والتفسير الثاني، بحسب مراقبين، إن الاستقالة لم يكن ليقدم عليها هذا السياسي المثير للجدل، لو لم يتلق "تعليمات أو إشارات" من جهات معينة تطالبه بالانسحاب من قيادة الحزب، بسبب ما يراه بعضهم فشلاً في مهمته التي أوحت الدولة إليه بها، وهي هزم إسلاميي "العدالة والتنمية"، إذ تصدروا الانتخابات التشريعية في 2011، والانتخابات المحلية في 2015، والانتخابات البرلمانية لعام 2016.
وفي جميع الأحوال، ومع اختلاف الدوافع التي يروجها كل طرف بشأن استقالة العماري، فإن المؤكد أن "الأصالة والمعاصرة" يعيش إحدى أصعب فترات مساره منذ نشأته، مع العلم أن هذا الحزب شهد تعاقب أربعة أمناء عامين في تسع سنوات، بمعدل أمين عام كل سنتين تقريباً، وهو وضع غير معتاد في الحياة الحزبية المغربية. وعُرفت الأحزاب السياسية في المملكة بكونها لا تقبل تداول القيادة، وأن الكثير منها تتولى قيادتها "زعامات خالدة" تجلس على رأس الحزب سنوات طويلة، إما بالانتخاب والتواطؤ، أو بالتزكية، ما جعل من الأحزاب السياسية تفرخ قيادات شائخة تمارس السياسة بعيداً عن القواعد الشابة، الشيء الذي أفضى إلى أزمة الثقة وضعف المشاركة في العمل الحزبي والسياسي في البلاد. وفي ما يبدو أن العماري أراد ضرب عصافير كثيرة بحجر واحد، من خلال قرار استقالته، التي وصفها بالشخصية، فإن الحزب مقبل على تنظيم دورة عادية للمجلس الوطني لـ"الأصالة والمعاصرة"، في 21 أكتوبر/تشرين الأول المقبل بمدينة الصخيرات، جنوب العاصمة الرباط، ستخصص أساساً لحسم الاستقالة من طرف برلمان الحزب، وانتخاب زعيم جديد في حالة تمسك العماري بقراره. وإذا كانت أغلبية أعضاء "برلمان الحزب" ترفض استقالة العماري، باعتباره ترك بصمة واضحة في مسار "الأصالة والمعاصرة"، ودفعه إلى احتلال مراتب متقدمة في المشهد السياسي بالبلاد، فإن الثابت أيضاً أن العماري يرفض بشدة التراجع عن قرار تنحيه عن زعامة الحزب.
وفي حالة تمسك العماري بقرار الاستقالة، ورفض طلب المجلس الوطني للحزب التراجع عن قراره، فإن المهمة ستنتقل وفق القانون التنظيمي الداخلي إلى الحبيب بلكوش الذي سيقود الحزب فترة مؤقتة، تدوم إلى حين تنظيم مؤتمر وطني استثنائي، نقطته الوحيدة تكون حينها انتخاب قيادة جديدة لـ"الأصالة والمعاصرة". ويبدو أن استقالة العماري فتحت الباب أمام ظهور أصوات معارضة له، ولطريقته في تدبير الحزب خلال الفترة الماضية، وبرز بشكل كبير في هذا الصدد القيادي عبد اللطيف وهبي، الذي دعا العماري صراحة إلى الرحيل برفقة تياره. وقال، في تصريحات صحافية، إن "استقالة العماري يجب أن تكون استقالة بالجمع وليس بالمفرد، فهو ليس شخصاً منفرداً بل توجه وتيار داخل الأصالة والمعاصرة، وعلينا القطع مع هذا التيار".
عقد مؤتمر للمجلس الوطني لحزب الأصالة والمعاصرة في أكتوبر المقبل للحسم في قرار استقالة العماري، عارضه وهبي بشدة، واعتبره غير قانوني، على اعتبار أنه ليس من اختصاص "برلمان الحزب" البت في استقالة العماري، بل فقط ترشيح اسم ليقود الأمانة العامة للحزب. وبعد أن كان العماري يدير "الأصالة والمعاصرة" مستخدماً "يداً من حرير بقفاز من حديد"، إلى حد أنه كان الرجل القوي والنافذ داخل الحزب، بدأت تظهر أصوات وآراء ومواقف معارضة، خصوصاً بعد إعلانه الاستقالة، تدعو إلى تصحيح مسار الحزب، واختيار قيادة جديدة تبتعد عن "الشعبوية" والتصادم مع حزب العدالة والتنمية خصوصاً. ويدعو معارضون لمسار حزب الأصالة والمعاصرة إلى تجاوز ما أسماه بعضهم "خطيئة النشأة"، والمقصود بها ولادة الحزب من رحم "حركة كل الديمقراطيين" التي أسسها المستشار الحالي للملك، فؤاد عالي الهمة، ما جعل الحزب في أذهان الكثيرين مقترناً بالسلطة وجهات نافذة في الدولة، الشيء الذي استغله خصومه، خصوصاً "العدالة والتنمية"، ليتهم قادته بكونهم "تماسيح وعفاريت" تقف في وجه الإصلاح، بحسب تعبيره.