تعود إلى الواجهة مع الذكرى السنوية الثانية لفض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة، علامات استفهام عديدة لم يقدّم نظام الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، إجابات لها، إمعاناً في الدفاع عن رموزه من أية ملاحقة قضائية أو دولية على ما اقترفته قوات الجيش والشرطة في ذلك اليوم. مَن اتخذ قرار الفض بهذه الصورة؟ هل كان النظام آمناً لحماية نفسه قضائياً ودولياً؟ أم أن ما حدث كان نتيجة سوء تصرّف ضباط ميدانيين تجاوزوا حدود ما أمر به السيسي ووزير الداخلية آنذاك، محمد إبراهيم؟ وهل كانت القوة الخيار الوحيد والمقرر سلفاً؟ جميع هذه الأسئلة قد تتبادر إلى أذهان المصريين والمراقبين، لأن الحدث كان مروعاً، للدرجة التي دفعت محمد البرادعي إلى الاستقالة من منصبه، كنائب لرئيس الجمهورية، في وقت شديد الحساسية بعد الفض بساعات، وفي غمرة الإدانات الدولية والحقوقية، مما أحدث قطيعة نهائية بينه وبين نظام السيسي.
وتكشف معلومات، من مصادر تنتمي لنظام السيسي، عن أن فكرة فض اعتصامي رابعة والنهضة بالقوة، كانت مسيطرة على محمد إبراهيم بشدة، وروّج لها في اجتماعات مجلس الوزراء ومجلسي الدفاع الوطني والأمن القومي منذ منتصف يوليو/تموز 2013، إلا أن الجناح الحكومي الذي كان مصطلحاً على تسميته بـ"الجناح الديمقراطي" والذي يتزعمه البرادعي، ويضم رئيس الوزراء، حازم الببلاوي، ونائبيه حسام عيسى وزياد بهاء الدين والوزير أحمد البرعي، كانوا يعترضون على فض الاعتصام بالقوة قبل منح البرادعي تحديداً الفرصة لإدخال وسطاء دوليين من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لإقناع "الإخوان" بفض الاعتصامين سلمياً، مقابل ضمانات معينة، حفاظاً على صورة النظام الجديد الساعي لترسيخ ذاته دولياً وإقليمياً.
كان السيسي يلتزم الصمت في اجتماعات مجلس الوزراء، ولم يكن يكترث بها، إذ كان يدير البلاد بواسطة مساعديه من اللواءات قادة الأفرع الرئيسية ومدير مكتبه النافذ في الدوائر العسكرية والحكومية، عباس كامل، فلم يكن يدخل في نقاشات حول فض الاعتصامين أمام باقي الوزراء، وتحديداً أمام بهاء الدين، الذي لم يكن حديثه يروق للسيسي، ويعتبره غير مقدّر لاعتبارات الأمن القومي.
ونقل السيسي المناقشات حول قضية فض الاعتصام إلى قصر الاتحادية، ودعا المسؤولين إلى عقد اجتماعات بهيئة مجلس الدفاع الوطني، الذي يغلب عليه التشكيل العسكري بحضور وزير الداخلية، ورئيس هيئة الأركان، آنذاك، صدقي صبحي، ورؤساء الأفرع الرئيسية للقوات المسلحة، والرئيس المؤقت، المستشار عدلي منصور، والببلاوي، والبرادعي، وعدد محدود من مستشاري رئيس الجمهورية المؤيدين للسيسي في ذلك التوقيت، وأبرزهم مستشار الشؤون الاستراتيجية المصطفى حجازي.
في هذه الاجتماعات اختلفت المعطيات، فباتت الأغلبية تصب في مصلحة مؤيدي الفض بالقوة، في الوقت الذي تقدّره الدولة، من دون اكتراث بالتطورات الحاصلة على الأرض سواء بزيادة أو انخفاض عدد المعتصمين، وكذلك التطورات الإقليمية. لكن المصادر تؤكد أن جميع التقديرات التي قدّمها وزير الداخلية لأعداد القتلى المتوقّعة من الطرفين، كانت أقل بكثير ممن سقطوا فعلياً، والذين تخطى عددهم الألف.
إلا أن اجتماعاً عقده منصور مع السيسي والبرادعي والببلاوي وإبراهيم في 24 يوليو/تموز 2013، تم خلاله الاتفاق على تفويض البرادعي شخصياً بمباشرة جهود وساطة دبلوماسية بين النظام و"الإخوان" بالتنسيق مع القوى الإقليمية والدولية، وصمم السيسي على أن يعلن النظام من خلال البرادعي عن حد أقصى لمدة هذه المفاوضات، بأن تكون 10 أيام على الأكثر، حتى لا يستغرق "الإخوان" فترة أطول من اللازم في التفاوض تقوى فيها شوكتهم أو يصبح الاعتصام أمراً واقعاً لا يمكن التعامل معه.
اقرأ أيضاً: التحالف يدعو المصريين إلى الانتفاضة يوم الجمعة لإسقاط الانقلاب
وفي 3 أغسطس/آب، عقد مجلس الدفاع اجتماعاً آخر بناء على طلب السيسي وإبراهيم، تم خلاله استعراض مفاوضات البرادعي والذي أشار إلى أن "الإخوان" الذين تواصل معهم عبر وسطاء يطالبون في مقابل فض الاعتصام وإدانة العنف، أن تفرج السلطة عن عدد من قيادات الجماعة، وتحرير الرئيس المعزول، محمد مرسي، وضمان عدم المساس بحزب "الحرية والعدالة" وكيان جماعة "الإخوان"، فقوبلت هذه العروض بالرفض العنيف من السيسي ومنصور وإبراهيم، وارتأى السيسي أن يوجه نداء فقط إلى "الإخوان" وباقي المعتصمين في اعتصامي رابعة والنهضة لإصدار بيانات لنبذ العنف والقبول بالأمر الواقع من دون قيد أو شرط.
وفي ذلك الاجتماع، تم استطلاع استعدادات الشرطة والجيش لفض الاعتصام بالقوة، فأكد إبراهيم أن الشرطة جاهزة لذلك، بشرط وجود غطاء مساعدات من القوات المسلحة لمنع تفاقم الأوضاع في حال حدوث مناوشات مسلحة بين الطرفين، فوافق السيسي على ذلك، وأيّد الببلاوي الخطة المزدوجة من حيث المبدأ، بشرط توفير مخرج آمن لفترة مناسبة، بينما اعتبر البرادعي أن هذا الحديث سابق لأوانه.
مرت 3 أيام أخرى واستطاع البرادعي، بحسب المصادر الحكومية ذاتها، أن يصل إلى مسودة اتفاق، وافقت عليه دول عربية والاتحاد الأوروبي، يقضي بفض اعتصامي رابعة والنهضة تلقائياً مقابل الإفراج عن القيادات الإخوانية المسجونة غير المتورطة في أعمال عنف، بالإضافة لتحرير مرسي، والضغط على "الإخوان" للاشتراك في العملية السياسية.
وفي 7 أغسطس/آب، عاد مجلس الدفاع الوطني للانعقاد، وكان واضحاً أن السيسي بالغ الغضب لفشل المناوشات التي شنتها قوات الشرطة طوال الأيام الماضية على المعتصمين في فض الاعتصامين، واستمرار تعامل الدول الأجنبية معه كأمر واقع. وتوضح المصادر أن السيسي "كان عنيفاً للغاية في هذا الاجتماع" وطلب صراحة وقف التفاوض مع "الإخوان".
وشهد الاجتماع خلافاً واسعاً حول سرعة اتخاذ قرار الفض، انتهى لغلبة رأي السيسي وإبراهيم بأن يكون الفض شأناً داخلياً للنظام، غير معلّق على أية شروط أخرى، واستئثار السيسي شخصياً بالتخطيط ومتابعة إجراءات الفض، حيث تم تشكيل لجنة داخلية من القوات المسلّحة والشرطة لوضع الخطة، ومتابعة التنفيذ إعلامياً وميدانياً وسياسياً. ومنذ ذلك الحين تم سحب الملف بشكل غير معلن من البرادعي والحكومة.
وفي 12 أغسطس/آب، عقد السيسي اجتماعاً مع إبراهيم اتفقا فيه على خطة الفض، وتوقّع إبراهيم سقوط أقل من 150 قتيلاً على أقصى تقدير من الطرفين، وتم عرض الخطة على عدلي منصور، الذي طلب أن تصدر الحكومة بياناً تحذيرياً للتنبيه، غير أن وزير الداخلية دعا لرفض ذلك "لاعتبارات أمنية" وأيّده السيسي الذي رجّح أن يكون التحذير سابقاً للفض بساعات معدودة، إلا أن ما حدث في الواقع كان مختلفاً، فمدة التحذير كانت أقل من ذلك بكثير.
وفي 13 أغسطس/آب أرسل الجيش والشرطة عبر مندوبيهم لدى القنوات التلفزيونية والصحف، إشارات سرية بموعد الفض وأماكن تمركز الكاميرات خلف ستار من مصفحات الشرطة لمتابعة وتسجيل العملية.
الوقائع المذكورة تعني بالضرورة أن المسؤولين عن اتخاذ القرار هم أربعة؛ السيسي وإبراهيم ومنصور والببلاوي، إلا أن الأحداث التي شهدتها العملية ميدانياً غير واضحة بما يسمح بمعرفة من السبب في تفاقم أعداد القتلى بهذه الصورة غير المسبوقة.
وتعزو المصادر الحكومية السابقة الأمر إلى 3 أسباب؛ الأول سوء مستوى الشرطة والقوات المسلحة وتعاملهم مع المدنيين، والثاني وجود حالة من الرغبة في التشفي من أفراد الاعتصامين لدى عناصر الشرطة تحديداً نظراً لسوء العلاقة بين الطرفين منذ عهد الرئيس المخلوع، حسني مبارك، والثالث هو رغبة السيسي وإبراهيم في "كسر ظهر" الإخوان ومناصريهم.
ولكل سبب من الثلاثة أدلة تؤيده، فقتل أفراد في الممر الآمن، إلى جانب عدم وجود فترة كافية بين التحذير والهجوم، وإغلاق الممر الآمن بسرعة ملحوظة، وهجوم قوات الجيش مع الشرطة في آن واحد على مناطق بعينها في الاعتصامين، وغيرها من الشواهد، تؤكد أن هدف القوات المهاجمة كان إيقاع أكبر عدد من الضحايا، لكن الحقيقة الكاملة ستظل غائبة في انتظار تحقيق مستقل حول الأحداث، التي انعدمت الأدلة المادية عليها، ولا توجد مستندات أو وثائق حول إدارتها، فالأكيد وفقاً للمصادر أن جميع المناقشات حول فض الاعتصامين كانت شفهية وغير مدونة في أوراق الرئاسة أو مجلس الوزراء أو وزارة الدفاع.
اقرأ أيضاً: الداخلية المصرية تتوعد متظاهري "مذبحة رابعة" بالرصاص الحيّ