يعتبر كتاب ماهر القرشي "فلسفة الاجتماع في الشريعة الإسلامية: دراسة تأصيلية بين حتمية الاختلاف وضرورة الاجتماع" (2014) من الأدبيات الجديدة القيمة التي ترجع الى مدارس الفقه لتأصيل معالجة الاختلاف في المجتمع من خلال مسارين: المسار الإصلاحي الذي يدعو الى التوحيد واصول الإيمان وبيان ما يسع منه الاختلاف وما لا يتسع، والذي يسميه الكاتب "الاجتماع الديني"؛ والمسار التنظيمي الذي يدعو للزوم الجماعة والنهي عن الفرقة والشذوذ "الاجتماع الدنيوي" وتحقيق أمن المجتمع وعدالته وقوته ومنع جميع أسباب الفتنة. ويستمر الكاتب في خلق بعض المفاهيم الضرورية لفهم تعاضد هذين الاجتماعين (الأول لتضييق الاختلافات والثاني لتنظيم الاختلاف) وذلك بتطوير قانون النظام العام وهو الأسس التي يقوم عليها كيان المجتمع ويتحقق بها أمنه واستقراره (العهود والمواثيق ولزوم الجماعة).
ويصبح مفهوم النظام العام مفهوماً مركزياً بالنسبة للكاتب. وكنت أتمنى لو تم تأصيله مستخدماً بعض نظريات وأدبيات علم الاجتماع وبخاصة مفهوم نسق النظام الاجتماعي (Social order) والذي هو شبيه بمفهوم الكاتب للنظام العام. واذا كان هناك مفهوم النظام العام فما هو مقياس النظام من اللانظام؟ يطور الكاتب مفهوم الحد الأدنى من النظام العام والذي يتكون من ثلاثة عناصر وهم: الأمن في مقابل الخوف، والقوة في مقابل تسلط الأعداء، والعدل في مقابل الظلم، سواء في الرأي الشرعي أم القانوني أم الفلسفي. وتأتي أهمية هذا المفهوم لسببين.
الأول، الحد الأدنى هو شرط تطبيق الشريعة، وهنا يلتقي القريشي مع عبدالله المالكي الذي نظر لأسبقية سيادة الأمة على تطبيق الشريعة.
أما السبب الثاني لأهمية مفهوم الحد الأدنى هو أن في حال غيابه تجوز الثورة على المستبد.
ويعترف الكاتب أن السلطات المستبدة تستغل مفهوم النظام العام وحيث تقوم بتفضيل التشريعات التي تحزم هذا النظام وفق معالجها وتسخر هذه التشريعات لملاحظة خصومها السياسية.
رغم أهمية هذا الكتاب في تأصيله لأفكار جديدة إصلاحية للفكر الإسلامي وهو جزء من الرسالة الرائدة لمركز نماء للبحوث والدراسات (الرياض) الذي يسعى لبناء "خطاب إسلامي معتدل، متصل بحركة التنمية" فإنه غرق وأغرقنا معه في الدراسات الفقهية التاريخية من ابن تيمية والأئمة الأربعة وغيرهم وحتى فيما يخص الاستفادة من العلوم الاجتماعية المعاصرة، اذ نجد أن الباحث فشل بالتعاطي معها للانتفاع منها في ربط أفكاره بواقعنا المعاصر.
وهنا أستحضر مثالا تناوله الكاتب وهو مأزق الديمقراطية. بدأ الكاتب بالتقعيد لمفهوم الديمقراطية على أنها التوفيق بين حرية الفرد ومصالح المجتمع ويستشهد بجاك جان روسو. وحيث رأى القرشي، فقد نجحت الفلسفة الديمقراطية إلى حد بعيد في إيجاد الصيغة المناسبة للاجتماع البشري، بما أنها سارت في اتجاه واحد لمعالجة الاختلاف، وهو المسار التنظيمي الذي يهدف الى تعظيم العلاقة بين أفراد المجتمع الواحد، ولكنها أهملت تضييق الاختلاف بين المسار الإصلاحي أو "الاجتماع الديني". ويستشهد بعدها بأدبيات غربية تؤكد على مأزق الديمقراطية في المجتمعات التي توجد بها إثنيات متعددة. وهنا يقترح الحل الإسلامي والذي يجمع بين التنظيم والتضييق ولكن بوصفه أداة سحرية ليس لها معنى في الواقع أو حتى آليات لتطبيقها. فهو يدعو إلى الهدى وكذلك بالتمسك بشرع الله واتباع الكتاب والسنة ويؤكد على أهمية آصرة الدين باعتبارها أقوى الأواصر لتطبيق الاختلاف. وكأننا نفهم منه أن الحل الأفضل لمشكلة تعدد الإثنيات والطوائف هو هدايتهم للإسلام وبالتالي تحل مشكلة إثنيتهم. لذا ما أعيب على هذا الكتاب هو أنه يشبه كثيرا تلك المحاولات الجارية لتكامل العلوم الشرعية مع العلوم الاجتماعية والإنسانية والتي لا تتمعن ابداً بالمقاربات بين هذه العلوم الأخيرة، ويظهر ذلك جلياُ في أن بين 227 مرجعاً يرجع لها القرشي، هناك 20 مرجعاً لها علاقة بالعلوم الاجتماعية وأغلبها من المراجع القديمة وغير الأساسية. وعلى الرغم من نقدي هذا، يبقى الكتاب لبنة في بناء خطاب إسلامي معتدل، يطمح له الكاتب والناشر معا.
(أستاذ علم الاجتماع، الجامعة الأميركية في بيروت)
ويصبح مفهوم النظام العام مفهوماً مركزياً بالنسبة للكاتب. وكنت أتمنى لو تم تأصيله مستخدماً بعض نظريات وأدبيات علم الاجتماع وبخاصة مفهوم نسق النظام الاجتماعي (Social order) والذي هو شبيه بمفهوم الكاتب للنظام العام. واذا كان هناك مفهوم النظام العام فما هو مقياس النظام من اللانظام؟ يطور الكاتب مفهوم الحد الأدنى من النظام العام والذي يتكون من ثلاثة عناصر وهم: الأمن في مقابل الخوف، والقوة في مقابل تسلط الأعداء، والعدل في مقابل الظلم، سواء في الرأي الشرعي أم القانوني أم الفلسفي. وتأتي أهمية هذا المفهوم لسببين.
الأول، الحد الأدنى هو شرط تطبيق الشريعة، وهنا يلتقي القريشي مع عبدالله المالكي الذي نظر لأسبقية سيادة الأمة على تطبيق الشريعة.
أما السبب الثاني لأهمية مفهوم الحد الأدنى هو أن في حال غيابه تجوز الثورة على المستبد.
ويعترف الكاتب أن السلطات المستبدة تستغل مفهوم النظام العام وحيث تقوم بتفضيل التشريعات التي تحزم هذا النظام وفق معالجها وتسخر هذه التشريعات لملاحظة خصومها السياسية.
رغم أهمية هذا الكتاب في تأصيله لأفكار جديدة إصلاحية للفكر الإسلامي وهو جزء من الرسالة الرائدة لمركز نماء للبحوث والدراسات (الرياض) الذي يسعى لبناء "خطاب إسلامي معتدل، متصل بحركة التنمية" فإنه غرق وأغرقنا معه في الدراسات الفقهية التاريخية من ابن تيمية والأئمة الأربعة وغيرهم وحتى فيما يخص الاستفادة من العلوم الاجتماعية المعاصرة، اذ نجد أن الباحث فشل بالتعاطي معها للانتفاع منها في ربط أفكاره بواقعنا المعاصر.
وهنا أستحضر مثالا تناوله الكاتب وهو مأزق الديمقراطية. بدأ الكاتب بالتقعيد لمفهوم الديمقراطية على أنها التوفيق بين حرية الفرد ومصالح المجتمع ويستشهد بجاك جان روسو. وحيث رأى القرشي، فقد نجحت الفلسفة الديمقراطية إلى حد بعيد في إيجاد الصيغة المناسبة للاجتماع البشري، بما أنها سارت في اتجاه واحد لمعالجة الاختلاف، وهو المسار التنظيمي الذي يهدف الى تعظيم العلاقة بين أفراد المجتمع الواحد، ولكنها أهملت تضييق الاختلاف بين المسار الإصلاحي أو "الاجتماع الديني". ويستشهد بعدها بأدبيات غربية تؤكد على مأزق الديمقراطية في المجتمعات التي توجد بها إثنيات متعددة. وهنا يقترح الحل الإسلامي والذي يجمع بين التنظيم والتضييق ولكن بوصفه أداة سحرية ليس لها معنى في الواقع أو حتى آليات لتطبيقها. فهو يدعو إلى الهدى وكذلك بالتمسك بشرع الله واتباع الكتاب والسنة ويؤكد على أهمية آصرة الدين باعتبارها أقوى الأواصر لتطبيق الاختلاف. وكأننا نفهم منه أن الحل الأفضل لمشكلة تعدد الإثنيات والطوائف هو هدايتهم للإسلام وبالتالي تحل مشكلة إثنيتهم. لذا ما أعيب على هذا الكتاب هو أنه يشبه كثيرا تلك المحاولات الجارية لتكامل العلوم الشرعية مع العلوم الاجتماعية والإنسانية والتي لا تتمعن ابداً بالمقاربات بين هذه العلوم الأخيرة، ويظهر ذلك جلياُ في أن بين 227 مرجعاً يرجع لها القرشي، هناك 20 مرجعاً لها علاقة بالعلوم الاجتماعية وأغلبها من المراجع القديمة وغير الأساسية. وعلى الرغم من نقدي هذا، يبقى الكتاب لبنة في بناء خطاب إسلامي معتدل، يطمح له الكاتب والناشر معا.
(أستاذ علم الاجتماع، الجامعة الأميركية في بيروت)