"إنني أتعفّن مللاً لولا ريشتي وألواني هذه، أعيد بها خلق الأشياء من جديد...".
"كل الأشياء تغدو باردة وباهتة بعدما يطؤها الزمن.. قمت بتشكيل وجهي من جديد، لا كما أرادته الطبيعة، بل كما أريده أن يكون: عينان ذئبيتان بلا قرار. وجه أخضر ولحية كألسنة النار. كانت الأذن في اللوحة ناشزة لا حاجة بي إليها. أمسكت الريشة، أقصد موس الحلاقة وأزلتها.. يظهر أن الأمر اختلط علي، بين رأسي خارج اللوحة وداخلها... حسنا ماذا سأفعل بتلك الكتلة اللحمية؟
أرسلتها إلى المرأة التي لم تعرف قيمتي وظننت أني أحبها.. لا بأس فلتجتمع الزوائد مع بعضها.. إليكِ أذني أيتها المرأة الثرثارة، تحدثي إليها...". من رسالة فان غوخ الأخيرة لأخيه ثيودور قبل موته.
كدراما كسولة جدًا، قد يروق للبعض أن يلتقط طرف الحكاية من آخر الخيط ثم يتوقف، أن يلوك حكاية فان غوخ، فيختزلها في رسّام مجنون قطع أذنه وأرسل بها لحبيبته من مصحّته النفسيّة، ثم انتحر. لكنه - فان غوخ - منذ البداية لم يكن قابلًا للفهم الكسول، أو للتصنيف ضمن سياقات اعتيادية، هذا طوال حياته القصيرة جدًا لأهله ومحيطه، فكيف به بعد الموت.
سبعةٌ وثلاثون عامًا، هذا كل الوقت الذي حظي به، 1100 رسم، 900 لوحة و800 رسالة، هذا كل ما حظينا به منه، غير أنه، لمن أراد، يكفي لفهم غير مبتسر، وقد أراد الشاعر البحريني قاسم حدّاد في كتابه الموسوم بـ"أيها الفحم يا سيّدي - دفاتر فنسنت فان غوخ"، الصادر عن دار مسعى للنشر والتوزيع، أن يجمع هذا الأثر، يعيد به بعث فان غوخ، تشكيله، دمًا وروحًا، ثم يستنطق قلبه ولسانه، بما لم يبح به بين السطور، وبين ارتعاشات إصبعه على اللوحة.
144 رسالة صاغها قاسم حدّاد، كأنما بلسان روح فان غوخ، أكمل بها الفراغ، ليس الفراغ الناقص، ولكن ذلك المشحون بالإحباطات، الخيبات، قصص الحبّ غير المكتملة، اغتراب الروح والانفصال عن المحيط، رسائل ساق من خلالها حدّاد مزيدًا من الأسئلة والتفسيرات أيضًا، تشارك وفان غوخ لا الحكاية فقط، وإنما الحالات التي انطوت عليها أفعاله التي لا تعود غريبة، بعد أن نقرأها مفسّرة ومُمَنطَقة حسب فلسفة فان غوخ وتقديراته، بل إن القارئ ربما يجد نفسه منساقًا لأفعاله التي بدت غريبة الأطوار أو عنيفة آنذاك، ويشعر مع قراءة النص، أنه ربما كان ليتصرف وفقًا لهذا المعنى على النحو ذاته!
يبدأ قاسم الرسائل الأولى متلمّسًا الطريق نحو فان غوخ، فيبدو فيها لا يزال يخلق تلك العلاقة معه، يتحدث عنه بضمير الغائب كأنما عين ترقبه من الخارج، ثم يقترب في الرسائل التالية بأن يخاطبه مناديًا إيّاه بيا صديقي.. يا أنا.. ثم ما يلبث أن يتّحد به ويتحدّث على لسانه، كأنما عملية تماهٍ واتحاد ما جرت تدريجيًا أثناء عملية الكتابة التي تمّت في غابات الهضبة المطلة على مدينة شتوتغارت الألمانية، أثناء استضافة حدّاد من قبل (أكاديمية العزلة) في شتاء 2012.
حالة التماهي تلك التي نشأت خلال الكتابة، بقرار مسبق أو من دونه، وجدت لها مناطق التقاء واضحة، يتحد فيها مبدعان، ويشعر معها القارئ، رغم معرفته بأن هذه الرسائل المكتوبة بيد قاسم حداد، إنما هي على لسان فان غوخ، يصير رغم قبوله لحالة التلبّس تلك، يشعر بأن المبدعِين يتقاسمون حالات الشقاء ذاتها، وأن ما يقاسيه فان غوخ، هو بطريقة ما نفسه ما يقاسيه حدّاد، وربّما كثير من المبدعين الخارجين عن السياق العام. فنجد أن بعض الرسائل التي صاغها حدّاد على لسان فان غوخ لها أثرٌ سابقٌ في نصوص وشعر قاسم حدّاد في إصدارات سابقة، عندما كان النص يعكسُ حالة فرديّة خالصة، وذلك في مناطق اشتباك عدّة، وحيث مفاهيم متعددة شكّلت محاور بحث وتساؤل في نصوص حدّاد، كما في حياة فان غوخ ورسائله، مثل الحب، الله، الموت، العائلة والفن...
وبالرغم من اشتغال حداد على توسيع نطاق حالة غوخ التي قيل بأنها الجنون، لتطاله وتطال المبدعين عامة، ثم ليجعل القارئ يفهمها، بل يتفهمها، ويتفاعل معها، فقد عمل ببراعة على التحليل الشخصي والدقيق للحالات النفسية الشاهقة التباين في مزاج فان غوخ خلال يومه، وعبر ما يُعتقَد بأنها يوميّات وعاديّات، كما لم يقف قاسم حدّاد في رسائله، أو رسائل فان غوخ التي همس بها في أذنه وقال اكتب، عند تفسيرات المؤرخين لأفعاله، إذ يرفض حدّاد، على سبيل المثال، فكرة أن غوخ قد انتحر، ويعتبر بأن هذا فعل لا يصدر عن هذا الفنان الجميل النبيل، ويميل ربما إلى الروايات الأخرى الأقل رواجًا، التي من بينها موته طبيعيًا أو مقتله، وهو إذ يعيد تحليل الفرضيّات، يعيدها من خلال البناء المحكم الذي شيّده لهذه الشخصية من خلال اللوحة والنص، فيضع تفسيراته على لسان فان غوخ، كأنما الرجل يردّ عن نفسه الأقاويل!
ورغم انحياز الشعراء للنص، إلا أن قاسم هنا، يضعنا في حيرة السؤال، من أين هي البداية أمن الكلمة أم من الصورة/ الرسم؟ لكنك إذ تحتار، تصير ترتضي فرضيّة أن البداية من المعنى وهو الذي يستحث الأداة أيًا كانت، شعرًا، رسمًا، موسيقى...
(كاتبة وشاعرة بحرينية)
أرسلتها إلى المرأة التي لم تعرف قيمتي وظننت أني أحبها.. لا بأس فلتجتمع الزوائد مع بعضها.. إليكِ أذني أيتها المرأة الثرثارة، تحدثي إليها...". من رسالة فان غوخ الأخيرة لأخيه ثيودور قبل موته.
كدراما كسولة جدًا، قد يروق للبعض أن يلتقط طرف الحكاية من آخر الخيط ثم يتوقف، أن يلوك حكاية فان غوخ، فيختزلها في رسّام مجنون قطع أذنه وأرسل بها لحبيبته من مصحّته النفسيّة، ثم انتحر. لكنه - فان غوخ - منذ البداية لم يكن قابلًا للفهم الكسول، أو للتصنيف ضمن سياقات اعتيادية، هذا طوال حياته القصيرة جدًا لأهله ومحيطه، فكيف به بعد الموت.
سبعةٌ وثلاثون عامًا، هذا كل الوقت الذي حظي به، 1100 رسم، 900 لوحة و800 رسالة، هذا كل ما حظينا به منه، غير أنه، لمن أراد، يكفي لفهم غير مبتسر، وقد أراد الشاعر البحريني قاسم حدّاد في كتابه الموسوم بـ"أيها الفحم يا سيّدي - دفاتر فنسنت فان غوخ"، الصادر عن دار مسعى للنشر والتوزيع، أن يجمع هذا الأثر، يعيد به بعث فان غوخ، تشكيله، دمًا وروحًا، ثم يستنطق قلبه ولسانه، بما لم يبح به بين السطور، وبين ارتعاشات إصبعه على اللوحة.
144 رسالة صاغها قاسم حدّاد، كأنما بلسان روح فان غوخ، أكمل بها الفراغ، ليس الفراغ الناقص، ولكن ذلك المشحون بالإحباطات، الخيبات، قصص الحبّ غير المكتملة، اغتراب الروح والانفصال عن المحيط، رسائل ساق من خلالها حدّاد مزيدًا من الأسئلة والتفسيرات أيضًا، تشارك وفان غوخ لا الحكاية فقط، وإنما الحالات التي انطوت عليها أفعاله التي لا تعود غريبة، بعد أن نقرأها مفسّرة ومُمَنطَقة حسب فلسفة فان غوخ وتقديراته، بل إن القارئ ربما يجد نفسه منساقًا لأفعاله التي بدت غريبة الأطوار أو عنيفة آنذاك، ويشعر مع قراءة النص، أنه ربما كان ليتصرف وفقًا لهذا المعنى على النحو ذاته!
يبدأ قاسم الرسائل الأولى متلمّسًا الطريق نحو فان غوخ، فيبدو فيها لا يزال يخلق تلك العلاقة معه، يتحدث عنه بضمير الغائب كأنما عين ترقبه من الخارج، ثم يقترب في الرسائل التالية بأن يخاطبه مناديًا إيّاه بيا صديقي.. يا أنا.. ثم ما يلبث أن يتّحد به ويتحدّث على لسانه، كأنما عملية تماهٍ واتحاد ما جرت تدريجيًا أثناء عملية الكتابة التي تمّت في غابات الهضبة المطلة على مدينة شتوتغارت الألمانية، أثناء استضافة حدّاد من قبل (أكاديمية العزلة) في شتاء 2012.
حالة التماهي تلك التي نشأت خلال الكتابة، بقرار مسبق أو من دونه، وجدت لها مناطق التقاء واضحة، يتحد فيها مبدعان، ويشعر معها القارئ، رغم معرفته بأن هذه الرسائل المكتوبة بيد قاسم حداد، إنما هي على لسان فان غوخ، يصير رغم قبوله لحالة التلبّس تلك، يشعر بأن المبدعِين يتقاسمون حالات الشقاء ذاتها، وأن ما يقاسيه فان غوخ، هو بطريقة ما نفسه ما يقاسيه حدّاد، وربّما كثير من المبدعين الخارجين عن السياق العام. فنجد أن بعض الرسائل التي صاغها حدّاد على لسان فان غوخ لها أثرٌ سابقٌ في نصوص وشعر قاسم حدّاد في إصدارات سابقة، عندما كان النص يعكسُ حالة فرديّة خالصة، وذلك في مناطق اشتباك عدّة، وحيث مفاهيم متعددة شكّلت محاور بحث وتساؤل في نصوص حدّاد، كما في حياة فان غوخ ورسائله، مثل الحب، الله، الموت، العائلة والفن...
وبالرغم من اشتغال حداد على توسيع نطاق حالة غوخ التي قيل بأنها الجنون، لتطاله وتطال المبدعين عامة، ثم ليجعل القارئ يفهمها، بل يتفهمها، ويتفاعل معها، فقد عمل ببراعة على التحليل الشخصي والدقيق للحالات النفسية الشاهقة التباين في مزاج فان غوخ خلال يومه، وعبر ما يُعتقَد بأنها يوميّات وعاديّات، كما لم يقف قاسم حدّاد في رسائله، أو رسائل فان غوخ التي همس بها في أذنه وقال اكتب، عند تفسيرات المؤرخين لأفعاله، إذ يرفض حدّاد، على سبيل المثال، فكرة أن غوخ قد انتحر، ويعتبر بأن هذا فعل لا يصدر عن هذا الفنان الجميل النبيل، ويميل ربما إلى الروايات الأخرى الأقل رواجًا، التي من بينها موته طبيعيًا أو مقتله، وهو إذ يعيد تحليل الفرضيّات، يعيدها من خلال البناء المحكم الذي شيّده لهذه الشخصية من خلال اللوحة والنص، فيضع تفسيراته على لسان فان غوخ، كأنما الرجل يردّ عن نفسه الأقاويل!
ورغم انحياز الشعراء للنص، إلا أن قاسم هنا، يضعنا في حيرة السؤال، من أين هي البداية أمن الكلمة أم من الصورة/ الرسم؟ لكنك إذ تحتار، تصير ترتضي فرضيّة أن البداية من المعنى وهو الذي يستحث الأداة أيًا كانت، شعرًا، رسمًا، موسيقى...
(كاتبة وشاعرة بحرينية)