04 نوفمبر 2024
الحكومة اللبنانية وإعادة إنتاج النظام الطائفي
منذ توقيع اتفاق الطائف سنة 1989، والذي كرَّسَ أمراء الحروب في لبنان صنّاعاً للسلام فيه وحرَّاساً له، والنظام الطائفي اللبناني يعيدُ إنتاج نفسه، كلما سنحت له الفرصة. وكلما لاحت بوادر سقوطه، بفعل عوامل تكوينية داخلية، أو حتى بفعل ضغطٍ شعبي، يُسارع أركانه إلى حقنهِ بإكسيرٍ يَمدّ عمره. وكان الفراغ الرئاسي الذي استمر أكثر من سنتين ونصف السنة، قبل انتخاب ميشيل عون رئيساً، الصورةَ الأنصعَ لهذا النظام المتوازن، الحامل في داخله عوامل صموده وعوامل انهياره في الآن عينه. وكاد استمرار ذلك الفراغ أن يكون عاملَ تهديدٍ لذلك التوازن، لولا الترياق (الحريري) الذي أنقذه، وأعطاه جرعةً تزيدُ في عمره عبر انتخاب عون أولاً، ثم عبر التشكيل الحكومي الذي كرَّس ما هو مكرَّس، من دون أي بارقة أملٍ في تغييرٍ في نمط الحكم الذي لم تتغير حتى وجوه معظم أركانه في الحكومة الجديدة.
ومع كلِّ تشكيلٍ حكوميٍّ جديدٍ في لبنان، يسود إحساسٌ في البلاد أن هذا النظام يتأبَّد، خصوصاً أن صراعات أهل الحكم التي تجري حول أعمدته المتجذرة في التربة، لا تزيده إلا قوةً، هي قوة توافقِ زعمائه وتحالفهم. فعوامل صمود النظام اللبناني هو التوازن في توزيع البلاد حصصاً على زعماء الطوائف. وعوامل انهياره خطرُ تضاربِ هذه المصالح، وبالتالي، انفلاش السلم الهَش وإسفاره عن نارٍ، هي دائماً باقية فيه تحت الرماد. وبنظرةٍ إلى هذه الصراعات، لا تجدها سوى عملية تنظيم لهذه التوافقية وإعادة وضعها على السكة، التي عليها وحدها يجب أن يسير هذه النظام، ليصل إلى غاية كماله، وبالتالي، الحفاظ على فرادته التي طالما شدّد عليها منظِّروه، أي فرادة تركيبه الطائفي العاكس تركيبة الكيان. ولأن جميع قادة البلاد، منذ الاستقلال حتى نهاية الحرب الأهلية، في تسعينيات القرن الماضي، كانوا يُجمعون، ويُردّدون، أن الفرادة تلك غير قابلة للتغيير، كانوا يعرفون أن هذه الفرادة موضعَ تهديدٍ دائمٍ من أبناء الشعب، غير أنهم وصلوا، هذه الأيام، إلى يقين أن تهديد الشعب وقواه صيغتهم وتوافقهم وفرادةِ نظامهم محض خيال، فقد وصل هذا النظام إلى حالةٍ من القوة، تجعل من الاستحالة تغييره. استحالةٌ سببها حالة التَّدجين التي وصل إليها المجتمع اللبناني وأبناؤه، وهو المجتمع المميز بين محيطه العربي بعدد المؤسسات والجمعيات الأهلية القادرة على تشكيل رأي عام مُفارق للزعماء والطوائف، لكن ذلك لا يحصل في لبنان. وسببها الآخر هو قوة أركانه، زعماء الطوائف، الذين، على الرغم من اختلافاتهم، تُوحّدهم مطالب شعبهم بالتغيير. فقد وحَّدَهم الحِراك الذي خرج في أغسطس/ آب من السنة الماضية، بدايةً احتجاجاً على القمامة المرمية في الشوارع، ليتطور إلى المطالبة بتغيير النظام الطائفي. وتحصَّن الزعماء في قلاعهم، فبانت قوتهم، عند
كل اجتماع لاختيار رئيسٍ للجمهورية، وأخيراً في السجالات التي رافقت تشكيل حكومة سعد الحريري شهراً ونصف الشهر. فقد فرض كل فريقٍ إرادته، وحصل على الوزارة التي يريد، أو على وزارة ترضيةٍ، إن تعذّر تحقيق مُراده. وظهر الأمر، في أثناء مشاورات تشكيل الحكومة، وكأن البلاد خالية من الشعب الذي لأجله تقوم الحكومات، فلا صوته يُسمع، ولا رأيه يُستمزج. فخرجت الحكومة كما أراد زعماء الطوائف، وإنْ تأخرت، فذلك لكي لا تشعر طائفةٌ بالغبن، ويهتز هذا الصرح.
وكان من بين أسباب التأخُّرِ في التشكيل الخلافات على الحقائب. وقد شملت الجميع، وتوثَّب الجميع للحصول على الوزارة التي يرغب. بل إن هنالك أطرافاً أبلغت أطرافاً أخرى أن الوزارة الفلانية التي في عهدتكم تسيطرون عليها منذ زمن، وقد آن لنا تسلُّمها. وهنالك وزاراتٌ، رأى بعض الفرقاء أنها أضيق من حجمهم ويستحقون وزارةً أكثر ثقلاً. كما أن هنالك وزارات تمسّ المصالح الفورية والدائمة لبعضٍ من الفرقاء. فعلى سبيل المثال، أصرّ رئيس مجلس النواب، نبيه برّي، على أن تكون وزارة الأشغال العامة والنقل من نصيب فريقه، كونه يحاول إنشاء ميناءٍ سياحيٍّ في بلدة عدلون، في قضاء الزهراني، على أنقاض أحد المواقع الأثرية المهمة، وهو بقايا ميناءٍ فينيقي. ويدخل هذا المشروع ضمن اختصاص هذه الوزارة، وكون اللغط قد دار حوله وواجه انتقاداً من بعض الأفراد ومؤسسات المجتمع المدني ودعاة الحفاظ على البيئة، فإن السيطرة على الوزارة تعني تمرير المشروع من دون الاكتراث للاعتراضات. لكن تيار المردة، حليف برّي، كان يصر على أحقيته بالوزارة، وهو الذي آثر السكوت على عدم اختيار رئيسه، سليمان فرنجية، رئيساً للبلاد، ففاز بالوزارة.
لا يعوَّلُ على أعضاء الحكومة الجديدة تحقيق أي مكتسبات للمجتمع والاقتصاد اللبنانيين، وهم الذين كانوا أعضاء في جميع الحكومات السابقة التي كانت عاجزةً عن تحقيق مطالب المواطنين المتواضعة. كما لا يعول عليهم تحقيق تنمية أو أي إنجازٍ اقتصادي يُغيِّر من الواقع المعيشي،
أو من واقع الاقتصاد اللبناني، الذي تتوالد أزماته، وتتوارثها الحكومات المتعاقبة من دون وضع أي رؤيةٍ للتخلص منها، فما بالك بتحقيق إنجازٍ مميزٍ، يخفّف من معدلات البطالة ويوقف هجرة الشباب وإفقار أبناء البلد، وتحوُّلِهم إلى التزلف والاستزلام لهذا الوزير أو ذلك المسؤول، مقابل وعودٍ بفرصةِ عملٍ، أو حتى بقرضٍ ماليٍّ لتسديد الديون المتراكمة على العائلات اللبنانية؟
كان لافتاً في الحكومة الجديدة استحداث وزارة لمكافحة الفساد، وهي ما كانت موضع تنُّدر في أوساط الشعب اللبناني. وفي استحداث هذه الوزارة تناقضٌ وقع فيه أهل الحكم، فمكافحة الفساد تعني، بالضرورة، سيادة القانون، وسيادة القانون تعني تطبيقه على هيئات الحكم على أقل تقدير، بدءاً من مجلس النواب، غير الشرعي، الذي تستتبع عدم شرعيته عدم شرعية كل ما صدر عنه، من انتخاب رئيسٍ للبلاد إلى تكليف الرئيس رجلاً لتشكيل وزارة. علاوة على ذلك، فإن أكثر ما هو غير شرعي إرسالُ فريقٍ في الحكم رجاله للمحاربة في بلد آخر، من دون مساءلته أو مساءلة من يعود منهم إلى البلاد، فهل ستقدر هذه الوزارة وضع اللبنات الأولى لمحاسبةٍ من هذا النوع؟
من غير المحتمل أن تضطلع وزارة مكافحة الفساد بمهامها، ومن غير المحتمل أن تضطلع الوزارات الأخرى بهذا الأمر أيضاً. ويدرك أبناء الشعب اللبناني هذه الحقيقة، ويدركها الوزراء أيضاً، فليس المهم إنجاز شيء، طالما المهم هو إعادة إنتاج النظام الطائفي وإرضاء زعماء الطوائف، وهي غاية حرّاس هذا النظام والمعتاشين عليه.
ومع كلِّ تشكيلٍ حكوميٍّ جديدٍ في لبنان، يسود إحساسٌ في البلاد أن هذا النظام يتأبَّد، خصوصاً أن صراعات أهل الحكم التي تجري حول أعمدته المتجذرة في التربة، لا تزيده إلا قوةً، هي قوة توافقِ زعمائه وتحالفهم. فعوامل صمود النظام اللبناني هو التوازن في توزيع البلاد حصصاً على زعماء الطوائف. وعوامل انهياره خطرُ تضاربِ هذه المصالح، وبالتالي، انفلاش السلم الهَش وإسفاره عن نارٍ، هي دائماً باقية فيه تحت الرماد. وبنظرةٍ إلى هذه الصراعات، لا تجدها سوى عملية تنظيم لهذه التوافقية وإعادة وضعها على السكة، التي عليها وحدها يجب أن يسير هذه النظام، ليصل إلى غاية كماله، وبالتالي، الحفاظ على فرادته التي طالما شدّد عليها منظِّروه، أي فرادة تركيبه الطائفي العاكس تركيبة الكيان. ولأن جميع قادة البلاد، منذ الاستقلال حتى نهاية الحرب الأهلية، في تسعينيات القرن الماضي، كانوا يُجمعون، ويُردّدون، أن الفرادة تلك غير قابلة للتغيير، كانوا يعرفون أن هذه الفرادة موضعَ تهديدٍ دائمٍ من أبناء الشعب، غير أنهم وصلوا، هذه الأيام، إلى يقين أن تهديد الشعب وقواه صيغتهم وتوافقهم وفرادةِ نظامهم محض خيال، فقد وصل هذا النظام إلى حالةٍ من القوة، تجعل من الاستحالة تغييره. استحالةٌ سببها حالة التَّدجين التي وصل إليها المجتمع اللبناني وأبناؤه، وهو المجتمع المميز بين محيطه العربي بعدد المؤسسات والجمعيات الأهلية القادرة على تشكيل رأي عام مُفارق للزعماء والطوائف، لكن ذلك لا يحصل في لبنان. وسببها الآخر هو قوة أركانه، زعماء الطوائف، الذين، على الرغم من اختلافاتهم، تُوحّدهم مطالب شعبهم بالتغيير. فقد وحَّدَهم الحِراك الذي خرج في أغسطس/ آب من السنة الماضية، بدايةً احتجاجاً على القمامة المرمية في الشوارع، ليتطور إلى المطالبة بتغيير النظام الطائفي. وتحصَّن الزعماء في قلاعهم، فبانت قوتهم، عند
وكان من بين أسباب التأخُّرِ في التشكيل الخلافات على الحقائب. وقد شملت الجميع، وتوثَّب الجميع للحصول على الوزارة التي يرغب. بل إن هنالك أطرافاً أبلغت أطرافاً أخرى أن الوزارة الفلانية التي في عهدتكم تسيطرون عليها منذ زمن، وقد آن لنا تسلُّمها. وهنالك وزاراتٌ، رأى بعض الفرقاء أنها أضيق من حجمهم ويستحقون وزارةً أكثر ثقلاً. كما أن هنالك وزارات تمسّ المصالح الفورية والدائمة لبعضٍ من الفرقاء. فعلى سبيل المثال، أصرّ رئيس مجلس النواب، نبيه برّي، على أن تكون وزارة الأشغال العامة والنقل من نصيب فريقه، كونه يحاول إنشاء ميناءٍ سياحيٍّ في بلدة عدلون، في قضاء الزهراني، على أنقاض أحد المواقع الأثرية المهمة، وهو بقايا ميناءٍ فينيقي. ويدخل هذا المشروع ضمن اختصاص هذه الوزارة، وكون اللغط قد دار حوله وواجه انتقاداً من بعض الأفراد ومؤسسات المجتمع المدني ودعاة الحفاظ على البيئة، فإن السيطرة على الوزارة تعني تمرير المشروع من دون الاكتراث للاعتراضات. لكن تيار المردة، حليف برّي، كان يصر على أحقيته بالوزارة، وهو الذي آثر السكوت على عدم اختيار رئيسه، سليمان فرنجية، رئيساً للبلاد، ففاز بالوزارة.
لا يعوَّلُ على أعضاء الحكومة الجديدة تحقيق أي مكتسبات للمجتمع والاقتصاد اللبنانيين، وهم الذين كانوا أعضاء في جميع الحكومات السابقة التي كانت عاجزةً عن تحقيق مطالب المواطنين المتواضعة. كما لا يعول عليهم تحقيق تنمية أو أي إنجازٍ اقتصادي يُغيِّر من الواقع المعيشي،
كان لافتاً في الحكومة الجديدة استحداث وزارة لمكافحة الفساد، وهي ما كانت موضع تنُّدر في أوساط الشعب اللبناني. وفي استحداث هذه الوزارة تناقضٌ وقع فيه أهل الحكم، فمكافحة الفساد تعني، بالضرورة، سيادة القانون، وسيادة القانون تعني تطبيقه على هيئات الحكم على أقل تقدير، بدءاً من مجلس النواب، غير الشرعي، الذي تستتبع عدم شرعيته عدم شرعية كل ما صدر عنه، من انتخاب رئيسٍ للبلاد إلى تكليف الرئيس رجلاً لتشكيل وزارة. علاوة على ذلك، فإن أكثر ما هو غير شرعي إرسالُ فريقٍ في الحكم رجاله للمحاربة في بلد آخر، من دون مساءلته أو مساءلة من يعود منهم إلى البلاد، فهل ستقدر هذه الوزارة وضع اللبنات الأولى لمحاسبةٍ من هذا النوع؟
من غير المحتمل أن تضطلع وزارة مكافحة الفساد بمهامها، ومن غير المحتمل أن تضطلع الوزارات الأخرى بهذا الأمر أيضاً. ويدرك أبناء الشعب اللبناني هذه الحقيقة، ويدركها الوزراء أيضاً، فليس المهم إنجاز شيء، طالما المهم هو إعادة إنتاج النظام الطائفي وإرضاء زعماء الطوائف، وهي غاية حرّاس هذا النظام والمعتاشين عليه.