في أفلام سعد الشرايبي، تمثّل الصورة أكثر عمليات الخلق السينمائي، بأنماط مختلفة، ما يجعل عمله السينمائي أكثر تحرّرًا من أسر العقل وتزمّته، بما تتميّز به من حركية وانسيابية في المَشاهد واللقطات، وأيضًا في ارتباطها الوثيق بمفوم الزمن، وعنف التاريخ، وقهر الجغرافيا.
لذا، تُعتبر أفلامه أكثر حداثة في المشهد السينمائي المغربي، إلى جانب أفلام كمال كمال ونبيل عيوش وهشام العسري، وغيرهم من المخرجين المُراهنين على بُعد ايدلولوجي فيها، لكن ليس بطريقة ديماغوجيّة تحاول تجميد الفكر، بل بالاشتغال عليه كمكوِّن فني وجمالي، يضع الفيلم في سياقات وأفكار متعددة عن الغربة والوطن.
هذا ما يُعاينه الشرايبي، عن كثب، في "الميمات الثلاث، قصة ناقصة" (2018)، الذي يتناول الوطن والصداقة والحب والوفاء وفلسطين والأجيال الجديدة، وأيضًا الحَمَق، الذي بدأ يُغلّف عقول البشر، على حدّ تعبيره، ويطبع سلوكهم اليومي تجاه السياسة والثقافة والحياة.
عن فيلمه الأخير هذا، وعن عوالمه الفنية والتخييلية، كان لـ"العربي الجديد" هذا الحوار معه.
أنتَ أحد المخرجين المغاربة الذين يمتلكون مشروعاً سينمائياً مغايراً للمألوف. كيف جاءك الاهتمام الباكر بالسينما، خاصة في فترة استحواذ السياسة على النصيب الأكبر من الفضاء العام في المغرب؟
في الواقع، تميّزت الفترة التي تزامنت مع ظهوري الأول في السينما، في سبعينيات القرن الـ20، باحتدام البيئة سياسياً. في المغرب، يدور معظم النقاش، خاصة بين الشباب، حول الوضع السياسي في البلد، والمطالب اليومية، بمزيد من الحرية والديمقراطية. لذلك، طبعت تلك الفترة اهتماماتي وحدّدتها كمواطن وفنان، منذ المرة الأولى، في النوادي السينمائية.
هكذا حدث التأثير، خاصة على مستوى البعد الثقافي للسينما.
من يشاهد أفلامك السينمائية، يكتشف كمّ المواقف السياسية والآراء التي يتضمّنها خطابك السينمائي. لماذا هذا الاهتمام بالقضايا الكبرى، علماً أنّ أفلاماً مغربية عديدة تتّجه إلى الترفيه والاستهلاك، المطبوعَين بفكاهة سوداء؟
يرتبط تصوّري للسينما ارتباطاً وثيقاً بمفهوم الالتزام. السينما، هي أيضاً، رسالة تُرسَل، وتُنقل بطرق مختلفة، ويمكنها اتّخاذ أشكال سردية متنوّعة.
في عملي السينمائي، أحاول التوفيق بين المسألتين، بمعالجة التأثير في المُشاهد من خلال عواطفه وفكره. تحدّي النجاح مُعقّد للغاية، يتطلّب دراسة شاملة للقصّة التي يرويها الفيلم، وللتعبيرات الفنية التي تدعمه. ما أريده دائماً هو دفع المُشاهد إلى مراجعة الأفلام من آخر صورة عُرضَت. بهذه الطريقة، يصير الانتقال من مرحلة المُشاهد السلبي، الذي يستهلك صورة من دون عيشها، إلى المُشاهد الإيجابي، الذي يقيم علاقة جدلية ومستمرة مع أفلامي.
فيلمك الأخير، "الميمات الثلاث، قصة ناقصة" (2018)، مثير للانتباه، خاصة أنّك تتناول فيه الصداقة والحب في المجتمع المغربي، في السبعينيات المنصرمة، محاولاً ربط هذا بسياق تاريخي، له علاقة باهتمام المثقف المغربي بفلسطين. لماذا فلسطين سينمائياً اليوم؟
أعتقد أنّ أيّ فنان يتعامل مع موضوع يتعلق بتاريخ العالم العربي، لا يمكنه تجاهل القضية الفلسطينية، فهي في قلب الصراع السياسي والعسكري والإنساني في منطقتنا، منذ أكثر من 70 عاماً. يمثّل هذا السؤال أكثر الانعطافات دراماتيكية في تاريخ الشعب الفلسطيني، من خلال نهب أراضيه، والمظالم اليومية التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي. لذلك، أعتقد أن السينما، بفضل قوّة تداول صُوَرها، يمكنها، إنْ لم يجب عليها، تقديم وصف لهذا الموقف، للتنديد به كلّما كان ذلك ممكناً، أمام الدعاية التي يقوم بها الغرب، من خلال صُور تُعطى تفسيراً خاطئاً للتاريخ، بحيث إن ذاكرتنا التاريخية ستحاسبنا في المستقبل إذا تجاهلنا هذه المشكلة.
بمشاهدة الفيلم، يتبدّى حرصك الشديد على التاريخ، إذْ تناولت فيه قصة حبّ وصداقة بين مسلمة ويهودي ومسيحي، في رحلة تاريخية ممتدّة على 6 عقود من تاريخ العرب. كيف تعاملت مع هذه المادة التاريخية، الطويلة نسبياً، في عمل سينمائي لا تتجاوز مدّته 120 دقيقة؟
وُلِد "الميمات الثلاث، قصة ناقصة" في أعقاب الربيع العربي. أردت التدخّل كمخرج في النقاش. لكن، نظراً إلى الدور الذي أحدثته هذه الثورات في مختلف البلدان، واستعادة الفعل السياسي للدافع الشعبي، لم أرغب في فيلمٍ عن الثورة نفسها، بل عن الأسباب التاريخية التي أفضت إليه.
العمل على السيناريو تمّ هكذا: أولاً، عبر بحث ببليوغرافي (المراجع) عن الأحداث التاريخية الرئيسية، التي أثّرت في المنطقة العربية الإسلامية في 60 عاماً، ممثّلة في الفيلم بصُوَر سجلات صادقة. ثانياً، بكتابة الشخصيات الرئيسية الثلاث (عربي ويهودي ومسيحي)، ورصد علاقة الصداقة أولاً، ثم الحبّ، في الفترة نفسها. ثالثاً، كان ضرورياً إيجاد توازن بين تاريخ الشخصيات والأحداث التاريخية. أعتقد أن هذا أعطى الفيلم بعداً مزدوجاً، وسرداً وتاريخاً.
انتهت قصّة الحب والصداقة ـ رغم الصعوبات السياسية والاجتماعية والدينية الكبيرة، التي شهدتها المرحلة حينها ـ بنجاحها في تحدّي الاختلافات والهويات العربية المغلقة. هل ترى ذلك ممكناً، عربياً، اليوم، أمام التحوّلات التي تشهدها البلاد العربية؟ هل يستطيع المخرج السينمائي تغيير مخيلة العربي، خاصة أنّك عالجت مسألة التطرّف بشكل خفي، في المشاهد الأخيرة من الفيلم؟
الفيلم مساهمة في هذا التأمّل، لإثارته أسئلة عديدة: لماذا عرف المواطنون المنتمون إلى طوائف دينية مختلفة تعايشاً تاماً بينهم سابقاً، ويعيشون اليوم صراعاً مفتوحاً؟ ما أسباب هذا الصراع؟ أهي ذات طبيعة طائفية أم سياسية أم اقتصادية أم حضارية؟ أسئلة كهذه يجب طرحها على الذات لتوضيح واقع هذه الحالة وفهمها، بشكل أفضل.
بالنسبة إلى التطرّف الديني في الفيلم، هو يأتي من منعطف أخذت به الأحداث منذ عام 2011 في العالم العربي. تسهل رؤية استعادة الدوافع الأولى للربيع العربي، إلى حدّ كبير، بسبب الدين. هكذا، تحوّلوا عن تطلّعاتهم الاجتماعية ومطالبهم الديمقراطية.
مسألة أخرى أثارت انتباهي: اشتغالك على السيناريو مع المغربية فاطمة الوكيلي. كيف جرى التعاون بينكما للمرّة الرابعة؟ هل تتفّق معي على أن السيناريو المشترك وكثرة كاتبيه تُضعف قيمة الفيلم، وتشوِّش على أفقه الفكري ومساره الإبداعي الدقيق؟
أتشارك مع فاطمة الوكيلي المخاوف والقناعات نفسها، والطريقة التي يجب اتّباعها لكتابة سيناريو، كما نقرأ معاً عن تاريخ العالم العربي المسلم، وعن القضية الفلسطينية. هذا التعاون أثرى الموضوع بمناقشاتنا واختلافاتنا، ما صنع دقّة أكبر في معالجة الموضوع والاشتغال على الفيلم.
يجب ألّا ننسى أننا ننتمي، هي وأنا، إلى الجيل نفسه، وأننا عشنا المسار نفسه لهذه الأحداث التاريخية، ربما بآراء مختلفة. هذه ثروة التعامل بيننا.
مَشاهد الفيلم مركّبة جدّاً. اشتغلت كثيراً على تقنية "فلاش باك"؟ كيف كان تعاملك مع المونتير: هل أنت ممن يراقبون المونتير أثناء المونتاج، أم أنك تتركه يشتغل، ثم تراجع بدقّة؟
توليف هذا الفيلم مرحلة ثانية من مراحل عرضه. عندما تجد نفسك أمام مادة متنوعة، فالأمر متروك لك لاختيار الاستخدام الأمثل، والتعبير الأنضج والأكثر تأثيراً. بهذا، يختبر المُشاهد العواطفَ والأفكار. استمرّ هذا الاشتغال أشهراً عديدة، وأثار نقاشات، قبل الاستقرار على التحديد النهائي، المتكرّر بين الحاضر والماضي، لإبقاء المُشاهد في حالة تأهّب دائم.
كان يُمكن وضع جدول زمني للقصّة، لكننا شعرنا بأنّ هذا النهج سهل للغاية، ولا يشجّع على البقاء في علاقة جدلية مع الفيلم.
ما الصعوبات التي واجهتك في اختيار الديكور الملائم لفيلمك، وأمكنة التصوير المتعدّدة، في الدار البيضاء وفرنسا ولبنان، وغيرها؟
هناك شقّان للصعوبات: أولاً، الصعوبات الفنية. ضروري إعادة تشكيل المجموعات في البلدان الثلاثة وتكييفها، فتكون دقيقة في اختيار التفاصيل كلّها: الزينة والأكسسوارات والماكياج واللغة المستخدمة. إلى ذلك، فإنّ بناء الأماكن التاريخية سينمائياً يحتاج إلى موارد مالية أكبر. هذه هي الصعوبة الثانية.
مع هذا، تغلّبت على الصعوبتين، بفضل مشاركة الفريق الفني ـ التقني ـ المالي.
ختاماً، كيف كان تفاعل الجمهور المغربي مع الفيلم؟ وتفاعل النقاد والمهرجانات المغربية، منذ إطلاق عروضه التجارية المحلية في 10 إبريل/ نيسان 2019؟
كما يعلم الجميع، فإنّ عدد صالات العرض التجاري السينمائي يتناقص أكثر فأكثر في المغرب، وبالتالي يتناقص عدد المشاهدين. هذه المشكلة عامة، بالنسبة إلى الأفلام كلّها. رغم ذلك، تمكنت عروض "الميمات الثلاث، قصة ناقصة" من الصمود 5 أسابيع، مستفيداً في الوقت نفسه من التغطية الإعلامية الواسعة، المرئية والمكتوبة والسمعية ـ البصرية. كذلك شارك في 6 مهرجانات، ومن المقرر مشاركته أيضاً في مهرجانات أخرى، في الأسابيع المقبلة.