في منتصف إحدى الليالي، كان ممثل قسم الأطفال "الأشبال" في سجن عوفر، الأسير لؤي المنسي من رام الله، نائماً، ليوقظه أحد سجاني الاحتلال الإسرائيلي كي يقنع طفلاً في الثالثة عشرة من عمره لدخول قسم الأطفال "الأشبال"، حينها كان ذلك الطفل يبكي خائفاً، ولا يريد الدخول، لكن لؤي أقنعه بدخول قسم الأشبال، خشية أن يزج به الاحتلال في الزنازين، فكان لؤي بمقام الأب، وهكذا يعتبره الأسرى الأطفال. الموقف كان قاسياً على لؤي بإقناع طفل بدخول السجن، واضطر حينها لفتح مقصف السجن "الكانتينا" وإعطاء الطفل حبة شوكولاتة، وكان اسم لؤي لوحده كافياً لتهدئة روع الطفل الذي سمع عن لؤي قبل اعتقاله.
لؤي المنسي (40 عاما) حالياً، وهو أسير محرر من سجون الاحتلال، أفرِج عنه قبل عدة أشهر أمضى في الاعتقال بشكل متواصل 15 عاماً، وتطوع لخدمة الأسرى الأشبال ورعايتهم مدة 7 سنوات إثر مطالبات بتخصيص أسير يكبرهم سنا لرعايتهم. لقد كان لؤي الأب والأم والصديق لأولئك الأشبال الذين يرعاهم رعاية الأب لأبنائه في ظروف قاسية، ولؤي يعتبر في حديث لـ"العربي الجديد" أن رعاية الأسرى الأطفال واجب وطني. خرج لؤي من سجون الاحتلال حالياً، واقترن بفتاة، ويتجهز لزفافه خلال الفترة المقبلة، وهو يعتقد أنه سيكون أباً حنوناً لأطفاله، لقد جرب الأبوة قبل أن يتزوج وينجب أطفالاً، فيما يدعو مؤسسات رعاية الأسرى إلى أن يهتموا بشكل أكبر بالأسرى الأطفال "الأشبال" وهم في داخل سجون الاحتلال، وبعد تحررهم.
في السجن كان لؤي يحرص أن يعوض جزءاً قليلاً من صورة العائلة خارج سجون الاحتلال، والتي تجتمع كل يوم جمعة، على أكلة المقلوبة، فيعد للأسرى الأطفال جميعاً تلك الأكلة، ويبدأ على مدار الأسبوع بادخار مستلزمات المقلوبة وهي نادرة في السجن، ويعد لؤي 12 "طنجزة" مقلوبة بعدد غرف الأسرى في قسم الأشبال، إذْ يعيشون أجواء كأنها العيد، ومقلوبة لؤي بالنسبة لهم أفضل مقلوبة في العالم.
تلقى المسؤولية الكبيرة على عاتق لؤي بتوزيع المهام بين الأسرى الأطفال ليخدموا زملاءهم، فكل أسير صاحب مهنة في الخارج يستفيد منه لخدمة زملائه، ولا بد للمنسي أن يكون بجانب الأطفال في قلقهم وأحزانهم وأفراحهم. على مسرح "وسينماتك القصبة" بمدينة رام الله، كان لؤي برفقة ثمانية أسرى محررين أطفال "أشبال"، والأشبال؛ مصطلح تطلقه الحركة الأسيرة على الأسرى الأطفال، مجتمعين بمحاضرة تعبيرية بعنوان "أولاد المنسي" قدمتها عدة مؤسسات فلسطينية، قبل أيام، ليوضحوا معاناتهم منذ اعتقالهم والتحقيق معهم وتكليف لؤي لهم بمهامهم التي يقدمون فيها رعاية للأسرى، فمنهم الحلاق وعامل المغسلة والمسؤول الإداري وعامل المقصف والطباخ وحامل الهاتف النقال. ويكلّفهم لؤي بمهام مُحكمة تنظيمياً، لإدارة شؤون الحياة اليومية للأسرى الأطفال.
ثمانية أسرى أطفال كان لؤي يوكل لهم مهماتهم التي يستطيعون، فالطفل أيمن بدران تحدث عن عمله طباخاً في السجن يصنع حلويات وأطعمة للأسرى، كالكنافة التي تصنع من الخبز المجفف، والتي تشبه تلك الحلوى دون مذاقها، أما توفير مسلتزمات المطبخ فهو أمر شاق، إذْ قد يصنع الأسرى مضطرين السكين ومفتاح العلب بأنفسهم، ويأخذ منهم ذلك وقتاً طويلاً. أما الطفل محمد حمدان فقد عمل "موجها لغرفة اعتقاله"، مسؤولاً عن جميع ما تتطلبه الغرفة وإدارة الحياة اليومية فيها. أما الطفلان ناصر عياش ومحمود شحام، فعملا بمقصف قسم الأشبال، والطفلان مروان العريان وعيسى تميم أوكلت لهما مهمة عامل المغسلة الذي يستيقظ صباح كل يوم ويجوب غرف الأسرى يجمع الملابس المتسخة لغسلها. العريان كان يعمل في السجن كذلك خياطاً بظروف صعبة، نظرًا لعدم توفر الخيطان أو الإبر. فالخيطان البلاستيكية تسحب من أكياس حفظ البطاطا، والإبر تدخل السجن كل ستة شهور، وإن تلفت يضطر الأسرى لصناعة الإبرة من بقايا الأسلاك حال وجودها، وعملية الخياطة قد تستغرق أياماً لقميص واحد مثلاً، علاوة على أن العريان يصنع العطر الذي يمنعه الاحتلال بطريقة معقدة بعد تهريب مستلزمات العطر من زيوت وكحول. أما الطفل عبد الرحمن شحادة فقد كان حلاقاً خارج السجن، ومهنته هامة للأسرى لندرتها، كما كان لدور الطفل أحمد سراري أهمية كبرى حينما كان مكلفاً بدور حامل الهاتف النقّال الممنوع داخل السجن ويهربه الأسرى، إذ أسند له هذا الدور كونه أمينا على خصوصيات الأسرى، ويرتب أدوراهم للحديث مع عائلاتهم، والمهمة الأصعب لهم تخصيص مكان لا تراه إدارة السجن، وفيه التقاطٌ جيد للإشارة.
الكاتبة أحلام بشارات التي أدارت نقاش "أولاد المنسي"، قالت لـ"العربي الجديد": "إن الأطفال الأسرى كانوا يشعرون بأبوة لؤي، وهم يستمدون منه قوتهم في محاربة السجان ووعيهم بمواجهة الاحتلال". بشارات توضح أن "أولاد المنسي" تحكي وراءها قصة شاب يبلغ الآن الأربعين من عمره، كان بمثابة الأب الروحي لهم، يضطر أحيانا للخروج معهم مقيدًا إلى محاكم خشية تعرضهم للمضايقات من السجانين، وقد يخرج معهم إلى زيارات عائلاتهم خاصة الزيارة الأولى، فكان الأب الذي يشاهد كمّا كبيرًا من مشاعر الأسرى الأطفال، "ما قام به لؤي أمر عظيم!".