العنف سمة أفلام معروضة في اليومين الأولين من أيام الدورة الـ70 (20 فبراير/ شباط ـ 1 مارس/ آذار 2020) لـ"مهرجان برلين السينمائي الدولي". عنف مادي يترافق وعنفاً معنوياً، وعنف داخلي يمزّق الروح والجسد معاً. الحرب ومآسيها حاضرةٌ، والبيئة الاجتماعية الصغيرة أساسية، والتنمّر يُشعل عنفاً يدفع إلى الجنون، والتفكّك النفسي أعجز عن مقاومة الغليان العنفي الداخليّ.
هذه أحوال عالمٍ تختلف أزمنته. الحرب العالمية الثانية والمحرقة النازية تتمثّل بـ"دروس فارسية" (2019) للأوكرانيّ فاديم بيرلمان (برنامج "خاص بالبرليناله"). طغيان الفاشية الإيطالية المُساهمة في اندلاع الحرب نفسها منعكس في أجواء "أردتُ أنْ أخفي" (2019) للإيطالي جيورجيو ديريتّي (المسابقة). الخراب الروحي والنفسي عاملٌ مدمِّر للذات والجسد، تعيشه إيْنَاسْ (إيريكا ريفاس) في "الدخيل" (2020) للأرجنتينية ناتاليا ميتّا (المسابقة أيضاً). التقوقع العائليّ في أسرة ترتكب آثاماً جُرمية، فعلٌ يُنتج عنفاً على إيدا (ساندرا غولبِرغ كامب، الممثلة "الواعدة" بحسب "هوليوود ريبورتر"، 21 فبراير/ شباط 2020)، في "لحم ودم" (2020) لجانيت نوردال، التي ستزداد انغلاقاً على ذاتها، وسترضخ لعنفٍ مبطّن يُمارَس عليها من أفراد عائلة خالتها، بعد موت والدتها في حادث سير (بانوراما).
القصص عديدة. السينما تحاول إيجاد مفرداتٍ بصرية لترجمتها إلى لغة الصورة. كلّ فيلم يفقد ما يُفترض به أنْ يجعله أفضل وأعمق، لأنّ قصصه معنية بأفرادٍ يُساقون إلى أقدارٍ غير متوقّعة بالنسبة إليهم، ويكتشفون معها أنّهم إما عاجزون عن بلورة موقفٍ منها، فيتوهون فيها، وإما راغبون في التأقلم معها من دون إمكانية التحرّر من تلقّي العنف. الحيلة أداة مواجهة، تتّخذ من المتوفّر ما يُعين المرء على نفاذٍ من موتٍ أو خراب، رغم أنّ الموت والخراب يُعشّشان في الروح والجسد، أو يحاصرانهما. الجنون نتيجةٌ توقِعُ أنتونيو ليغابي (إيليو جيرمانو) في عالم الفن، زمن الفاشية الإيطالية. الجنون يُصيب إيْنَاس قبل انصرافها إلى دهاليزه الخانقة، فتستردّ حياتها في أروقة الظلام والمتاهة.
الحيلة قدر الشاب البلجيكي جيل (نَوَلْ بيريز بيسكايارت، الذي يؤدّي دور ألبرتو في "الدخيل" أيضاً) في مواجهة معسكرات الموت زمن الاحتلال النازي لفرنسا عام 1942. لحظات قليلة، يمضيها الشاب (الذي يُصبح اسمه ريزا الفارسي أمام سجّانه النازي) في شاحنةٍ تحمل يهوداً إلى حتفهم، كافية لإنقاذه من الموت، إذْ يُقنعه شابٌ آخر بأنْ يُعطيه الطعام الذي معه لقاء كتاب نادر عن الفارسية، فيكون الكتاب خلاصه. لن يُقتل "الفارسي"، بل يُصبح مدرّس لغة فارسية (يبتكرها لأنّه يجهلها) لضابطٍ نازي يحلم بالسفر إلى طهران وافتتاح مطعم والعيش فيها بعد انتهاء الحرب. التدريس يؤجّل موتاً يحوم حول ريزا، من دون أنْ يتخلّص من خوفٍ يومي يُثقل عليه. الحيلة أيضاً قدر إيدا، إذْ تنصاع إلى مشيئة عائلة يُفترض بها أنْ تكون "قريبتها"، فتحتال على الحياة وتوافق على التضحية بحياتها إنقاذاً لمن يدفعها خطوات أكبر منها في العمر والمشاعر. فالعائلة "تجبي" ضرائب من أناسٍ عديدين، لكن خطأ واحداً (قتل أحد الضحايا من دون قصد) يزيد الضغوط والانشقاق والتمزّقات، فتنهار آخر الروابط الجامعة أفراد تلك العائلة، مع انتحار الابن الأضغر أمام عيون والدته وصديقته الحامل.
الأفلام الـ4 تلك منبثقة من أسئلة معلّقة عن الفرد في مجتمعات موبوءة بالخراب المبطّن والبطيء والقاسي. يُسرف أنتونيو ليغابي (1899 ـ 1965) في رسم لوحات وتحقيق منحوتات لن تبلغ جمالاً وإبهاراً مطلوبين، بقدر ما تُحصّنه من عنفٍ يُطارده منذ صغره، فيدفعه إلى الجنون، بل إلى اضطرابات نفسية تجعله منغلقاً على نفسه وتائهاً وسط أكاذيب، تعريتها مصائب تنهال عليه. في "أردتُ أنْ أخفي"، تناولٌ مكثّف لأحوال اجتماع وفن في لحظة سياسية تغييرية قاسية. "الدخيل" مرآة مرتبكة لذاتٍ تجد نفسها في الحدّ الواهي للغاية بين وقائع غامضة ومتخيّل يتوه في أنسجة الدماغ واللاوعي والصدمات. "لحم ودم" يستند إلى النفسيّ في تسيّده على الفرد وعلاقاته بذاته وبمحيطين به، محاولاً بذلك كشف مكامن الخراب المدوّي بصمتٍ في عقلٍ وروح وجسدٍ.
أما "دروس فارسية"، المستند إلى "أحداثٍ حقيقية" موثّقة في رواية "اختراع لغة" (2004) للألماني فولفغانغ كولهاز، فيساوي بين انقلابين اثنين، بشكلٍ سينمائي موغل في ميلودرامية بكائية، نافرة أحياناً عديدة، عن مأزق أخلاقي يقضّ مضجع أوروبا، بعد 75 عاماً على انتهاء الحرب العالمية الثانية: انقلابٌ أول يتمثّل بالمسار الحياتي لريزا، الذي يعتبر الكذب احتيالاً من أجل خلاصٍ يأتيه لاحقاً بعد أعوام من العنف والضغوط والمواجهات والتحدّيات؛ وانقلابٌ ثانٍ يعيشه الضابط النازيّ كلاوس كوك (لارس أيدينغر)، الذي يظهر في لقطات عديدة إنساناً جميلاً يرغب في خلاصٍ يُتيح له استقراراً في بلدٍ بعيدٍ، لكنّه يقع فريسة احتيال ريزا، المؤدّي به (أي الاحتيال) إلى خيبة قاتلة.
القصص عديدة. السينما تحاول إيجاد مفرداتٍ بصرية لترجمتها إلى لغة الصورة. كلّ فيلم يفقد ما يُفترض به أنْ يجعله أفضل وأعمق، لأنّ قصصه معنية بأفرادٍ يُساقون إلى أقدارٍ غير متوقّعة بالنسبة إليهم، ويكتشفون معها أنّهم إما عاجزون عن بلورة موقفٍ منها، فيتوهون فيها، وإما راغبون في التأقلم معها من دون إمكانية التحرّر من تلقّي العنف. الحيلة أداة مواجهة، تتّخذ من المتوفّر ما يُعين المرء على نفاذٍ من موتٍ أو خراب، رغم أنّ الموت والخراب يُعشّشان في الروح والجسد، أو يحاصرانهما. الجنون نتيجةٌ توقِعُ أنتونيو ليغابي (إيليو جيرمانو) في عالم الفن، زمن الفاشية الإيطالية. الجنون يُصيب إيْنَاس قبل انصرافها إلى دهاليزه الخانقة، فتستردّ حياتها في أروقة الظلام والمتاهة.
الحيلة قدر الشاب البلجيكي جيل (نَوَلْ بيريز بيسكايارت، الذي يؤدّي دور ألبرتو في "الدخيل" أيضاً) في مواجهة معسكرات الموت زمن الاحتلال النازي لفرنسا عام 1942. لحظات قليلة، يمضيها الشاب (الذي يُصبح اسمه ريزا الفارسي أمام سجّانه النازي) في شاحنةٍ تحمل يهوداً إلى حتفهم، كافية لإنقاذه من الموت، إذْ يُقنعه شابٌ آخر بأنْ يُعطيه الطعام الذي معه لقاء كتاب نادر عن الفارسية، فيكون الكتاب خلاصه. لن يُقتل "الفارسي"، بل يُصبح مدرّس لغة فارسية (يبتكرها لأنّه يجهلها) لضابطٍ نازي يحلم بالسفر إلى طهران وافتتاح مطعم والعيش فيها بعد انتهاء الحرب. التدريس يؤجّل موتاً يحوم حول ريزا، من دون أنْ يتخلّص من خوفٍ يومي يُثقل عليه. الحيلة أيضاً قدر إيدا، إذْ تنصاع إلى مشيئة عائلة يُفترض بها أنْ تكون "قريبتها"، فتحتال على الحياة وتوافق على التضحية بحياتها إنقاذاً لمن يدفعها خطوات أكبر منها في العمر والمشاعر. فالعائلة "تجبي" ضرائب من أناسٍ عديدين، لكن خطأ واحداً (قتل أحد الضحايا من دون قصد) يزيد الضغوط والانشقاق والتمزّقات، فتنهار آخر الروابط الجامعة أفراد تلك العائلة، مع انتحار الابن الأضغر أمام عيون والدته وصديقته الحامل.
الأفلام الـ4 تلك منبثقة من أسئلة معلّقة عن الفرد في مجتمعات موبوءة بالخراب المبطّن والبطيء والقاسي. يُسرف أنتونيو ليغابي (1899 ـ 1965) في رسم لوحات وتحقيق منحوتات لن تبلغ جمالاً وإبهاراً مطلوبين، بقدر ما تُحصّنه من عنفٍ يُطارده منذ صغره، فيدفعه إلى الجنون، بل إلى اضطرابات نفسية تجعله منغلقاً على نفسه وتائهاً وسط أكاذيب، تعريتها مصائب تنهال عليه. في "أردتُ أنْ أخفي"، تناولٌ مكثّف لأحوال اجتماع وفن في لحظة سياسية تغييرية قاسية. "الدخيل" مرآة مرتبكة لذاتٍ تجد نفسها في الحدّ الواهي للغاية بين وقائع غامضة ومتخيّل يتوه في أنسجة الدماغ واللاوعي والصدمات. "لحم ودم" يستند إلى النفسيّ في تسيّده على الفرد وعلاقاته بذاته وبمحيطين به، محاولاً بذلك كشف مكامن الخراب المدوّي بصمتٍ في عقلٍ وروح وجسدٍ.
أما "دروس فارسية"، المستند إلى "أحداثٍ حقيقية" موثّقة في رواية "اختراع لغة" (2004) للألماني فولفغانغ كولهاز، فيساوي بين انقلابين اثنين، بشكلٍ سينمائي موغل في ميلودرامية بكائية، نافرة أحياناً عديدة، عن مأزق أخلاقي يقضّ مضجع أوروبا، بعد 75 عاماً على انتهاء الحرب العالمية الثانية: انقلابٌ أول يتمثّل بالمسار الحياتي لريزا، الذي يعتبر الكذب احتيالاً من أجل خلاصٍ يأتيه لاحقاً بعد أعوام من العنف والضغوط والمواجهات والتحدّيات؛ وانقلابٌ ثانٍ يعيشه الضابط النازيّ كلاوس كوك (لارس أيدينغر)، الذي يظهر في لقطات عديدة إنساناً جميلاً يرغب في خلاصٍ يُتيح له استقراراً في بلدٍ بعيدٍ، لكنّه يقع فريسة احتيال ريزا، المؤدّي به (أي الاحتيال) إلى خيبة قاتلة.