"الموصل" أول تجربة إخراجية للسيناريست الأميركي ماثيو مايكل كارناهان، الذي تتنوّع سيناريوهاته بين إثارة وغموض وتحقيقات وحروب. سيناريو "الموصل" له أيضاً، استلهمه من مقالة للوك موغِلْسن، منشورة في "ذو نيويوركر"، في 6 فبراير/ شباط 2017، عن أفراد فرقة "سوات" العراقية المُسلّحة، ومحاربتهم تنظيم "داعش". حِرفية كارناهان، ككاتب سيناريو متمرّس، لا تثير الدهشة. لكن المدهش أن تتميّز تجربته الإخراجية الأولى بقدر كبير من الحرفية والصدق.
إلى تجربته الإخراجية الأولى، يخوض كارناهان مغامرات، ليصنع فيلمه بأكبر صدقية ممكنة: الفيلم ناطق كلّه باللغة العربية. هذه مُجازفة، فالإنتاج أميركي كلّياً، والجمهور الغربي مستهدف أول. مع ذلك، يختار كارناهان اللغة العربية لإضفاء صدقية أكبر على عمله، بصرف النظر عن أية تبعات، تجارية أو تسويقية. كذلك فإنّه لم يستعن بنجوم صف أول أو ثانٍ، لضمان إيرادات إضافية، مستعيضاً عنهم بعربٍ، من العراق والأردن وتونس، وغيرها.
تصوير "الموصل" جرى في المغرب، لا في المدينة العراقية الموصل نفسها، بعد تطهيرها من قوات "داعش". كان يُمكن عدم التوقّف عند هذه المعلومة، لو أنّ هذا غير لافت للانتباه بصرياً، فالعين تعجز عن إغفال جمالياته، إذْ يصعب تصديق أنّ الأماكن ديكورات، لا أحياء وشوارع وأزقّة مدمَّرة في الموصل، ما يُحسَب لمصمّم الإنتاج والديكور، النيوزيلندي فيل آيفي.
يتناول "الموصل" عمل أعضاء فريق "سوات نينوى"، في يومٍ دمويّ طويل في ساحات المدينة، مسقط رأسهم. أي إنّ الأحداث تدور في يوم واحد، بل في ساعات قليلة بعد الظهر. ساعات نجح كارناهان في تكثيفها واختزالها إلى 100 دقيقة، جاعلاً إياها زمناً حقيقياً، ومقدِّماً بهذا فيلماً أصيلاً، يستند إلى التقاليد العريقة لنوعية "أفلام الحرب"، من دون أنْ ينتحل أياً منها. الفيلم صادق في تصويره وتقديمه بطولة الفرقة الانتحارية، من دون تكلف. فالمخرج ابتعد عن سمات كثيرة في الأفلام الهوليوودية، رغم المغريات. مع ذلك، أبدع فيلماً مشوقاً، يُمسك الأنفاس منذ دقائقه الأولى، حتى نهايته.
في البداية، تُذكر حقائق وأرقام عن الفرقة، وعن المهمّات التي نفّذتها، وعن أفرادها. كذلك يُذكر أن أعضاءها، قليلي العدد، كانوا ـ لفترة غير قصيرة ـ من ألدّ أعداء "داعش" في تلك البقعة، وكبّدوا التنظيم خسائر فادحة، عتاداً وأفراداً. في نهايته، تتوالى أسماء أفراد الفرقة، الظاهرين في الفيلم، إلى جانب تواريخ وفاتهم أثناء تنفيذ العمليات. فرقة "سوات" لا تتبع أية جهة. أفرادها جنود سابقون في الجيش العراقي، قبل تركه وتشكيل تلك الفرقة الخاصة، المعنيّة بالانتقام، بدم بارد، من أعضاء "داعش" أينما كانوا. الشرط الوحيد للانضمام إليها، أن يكون الراغب في ذلك فاقداً قريباً له، أو مُصاباً هو نفسه بسبب "داعش"، وأن يكون هدفه الوحيد الانتقام من التنظيم الإرهابي، أياً يكن الثمن.
يبدأ "الموصل" بمعركة طاحنة وغير متكافئة، إثر هجوم "داعش" على أحد المقاهي، ومحاولة شرطيين اثنين الدفاع عن نفسيهما، بشكل يائس، بعد محاصرتهما داخل المقهى. فجأة، ينقلب الموقف بعد تبادل عنيف لإطلاق النار، فتهدأ الأمور. ذلك أنّ مجموعةً تمكّنت من القضاء على مهاجمي "داعش"، قبل أن تظهر حقيقة ما حدث سريعاً. هناك ضابط شاب يُدعى كاوا (آدم بيسا)، فَقَد عمه للتو، وصديقه الشرطي سنان (أحمد غانم). وسط دهشتهما وجهلهما وتشككهما في هوية هؤلاء، يشكران أعضاء الفرقة، بقيادة الرائد جاسم (سهيل دباغ)، وذارعه اليمنى وليد (إسحاق إلياس)، ورجالهما الـ9.
الفرقة تنفّذ عمليات هجومية ودفاعية في الساعات المقبلة، وهي تحتاج إلى أكبر عدد من الرجال، الذين يختارهم كاوا، بعد علمه بمقتل عمّه أثناء الهجوم. جميعهم يريدون الانتقام لكاوا والثأر لعمّه، فيُقرّرون ضمّه إلى الفرقة، رغم شكّه في هويتهم، وجهله طبيعة المهام التي سيقومون بها. في الوقت نفسه، يرفضون الاستعانة بزميله وضمّه إليهم. بعد المُقدمة التعريفية الوجيزة تلك، تبدأ رحلة متوترة لأفراد الفرقة في أثناء تنفيذهم مهمّاتهم القتالية في المدينة.
بتوازن محسوب، أفرد كارناهان مساحات متباينة للشخصيات، مبرزاً سمات كلّ شخصية على حدة، وموضحاً خلفياتها. لكن المساحة الكبرى خُصِّصت لشخصيتي الشرطي كاوا، والرائد جاسم، قائد الفرقة. مع مسار الفيلم، يُلاحظ تطوّر شخصية كاوا (أداء جيد لآدم بيسا)، من كونه شرطياً نظامياً مُسالماً وشبه محترف، مع بعض البراءة، إلى محارب جسور، صلب المشاعر.
منذ إطلالته الأولى، يفرض الرائد جاسم حضوراً قوياً، لأنّ شخصيته مرسومة جيداً، وأساساً لأنّ أداء سهيل دباغ رائع. يتحلّى الرائد جاسم بعقلانية وفطنة كبيرتين، وبثبات نفسي وإقدام. مهارات تليق بقائد لا يرى سوى هدفه، ويسعى إليه بكلّ صدق وثبات.
في الوقت نفسه، هناك شعور بجرح غائر فيه، سبّبه أعضاء التنظيم. مهووس هو بالنظافة، رغم الخراب والدمار المحيطين بكل شبر في المدينة، ما يجعل فعله هذا عبثياً. لكنه لا يملّ من تنظيف الأماكن التي يوجد فيها، ويحثّ أفراد فرقته على القيام بالأمر نفسه، وهذا يُسبّب قتله، بسبب لغم ينفجر فيه، أخفاه أعضاء التنظيم في صندوق، في إحدى البقاع التي هاجموها وطهروها من أفراده. رغم وفاته، ونجاح الفرقة في تنفيذ عملية خطرة وصعبة، يظلّ التوتر قائماً حتى الدقائق الأخيرة، مع لقاء وليد بزوجته حياة (حياة كامل) وابنته، اللتين لم يرهما منذ احتلال "داعش" المدينة، فتكون بانتظاره مفاجأة مُحزنة، بعد قتله داعشياً كان يسكن بيته.