مصادفةً، ربما، وإن لن تخلو من معنى، أن يؤدّى العمل في الدوحة بمناسبة مرور 150 عاماً على رحيل المؤلف الموسيقي الفرنسي هكتور برليوز في الثامن من مارس/ آذار لسنة 1869؛ أي بعد عقدين من بدء موسم ثورات ربيع الأمم الأوروبية عام 1848، ضمن حفل لأوركسترا قطر الفيلهارمونية، أحيته على مسرح دار الأوبرا في "الحي الثقافي - كتارا" في الدوحة، بقيادة الألماني ديفيد نيمان، فيما العالم العربي يتذكّر آذار سورية ويُشاهد آذار السودان والجزائر.
بيد أن الثورة، هنا، لم تؤمّن للعمل سياقه فحسب؛ وإنما دخلت أيضاً على بنية شكله وبيئة مضمونه؛ فغرائبية برليوز هي واحدة من إيقونات الحقبة الرومانتيكيّة التي انبثقت عن فكر الثورة الفرنسية في مواجهة عقلنة الطبيعة التي نادت بها كلاسيكية الحداثة لعصر التنوير، وارتداد لثورة صناعية موازية بشّرت بتغيير البنى السياسية والاجتماعية الحاكمة من ملكية أرستقراطية إلى برجوازية وطنية وجمهورية.
مجّدت الرومانتيكيّة تجربة الإنسان الفرد، سواء في اللذة أو في الألم، شرعنت له كلاً من أفكاره وأحلامه. صار للطبيعة مقاربة جديدة لم تعد قائمةً على الناموس الفيزيائي، وإنما على المحسوس الوجداني والذائقة الشعورية. تحرّر الجسد وأصبح الحب قوّةً وقيمة، صاغت تلك المبادئ والأفكار مُختلف فروع الفكر والثقافة في أوروبا، في الأدب والشعر والفلسفة، كما في الفنون والموسيقى.
اهتم جلّ الأدباء والفنانين الرومانتيكيّين بالبرزخ الذي يصل الحياة بالحلم والواقع بالخيال. من هنا، لم يقتصر تناولهم لعوارض الهلوسة والوجد الحاصلة بتأثير المخدّرات والمكيّفات على الناحية الأخلاقية والاجتماعية وحسب، بل تعدّاها إلى رصد التجربة النفسية والروحية التي يتجاوز بها الإنسان حدود الواقع المعيش إلى الواقع المُتخيل، ومن ثم كيف سيؤثّر كل منهما بالآخر نقضاً أو تكميلاً.
من هنا، استند برليوز في كتابته لسيمفونيته إلى اقتباس أخرجه الشاعر الفرنسي المُجايل ألفريد دي موسيه عن نص كتبه توماس دي كوينسي بعنوان "اعترافات مدمن أفيون إنكليزي"، حتى أن بعض الدراسات تشير إلى أن برليوز نفسه قد يكون قد كتب جزءاً من سيمفونيته الغرائبية على الأقل من وحي تجربة تعاطٍ شخصية لمُخدّر الأفيون الذي شاع تداوله في أوروبا خلال تلك الفترة.
ثورية الشكل تكمن في تحرير الموسيقى من قالب الحركة والزمن، ومن ثم مقاربتها من منظور تصوير أدبي وتشكيلي. لم تعد السيمفونية مجموع محركات شعورية منضبطة ومتسّقة في جمل ومقاييس محددة، بل أُسند إليها، موسيقياً، مهمة روائية لمشاهد وفصول، من دون أن تُحمّل بنصوص لغوياً، إيذاناً ببدء التداخل والتواصل بين مُتعدِّد فروع الفنون ومختلِف وسائل تعبيرها.
لذا، اصطُلح على أسلوب العمل؛ "موسيقى البرنامج" إبرازاً للدراميّة، لم تعنون أجزاؤه بحركات سريعة وبطيئة، وإنما بمشاهد ولوحات؛ الجزء الأول بعنوان "تخيّلات وتهيّجات"، الثاني "حفلة راقصة"، الثالث "مشهد الحقول" ثم الرابع "السير نحو الإعدام" والخامس "لقاء السحرة ليلةَ السبت"، وإن كان بيتهوفن قد سبق برليوز في نهج البرمجة حين قدّم سيمفونيّته السادسة؛ "الريفية"، في عام 1808.
كما توحي العناوين، تروي السيمفونية قصة فنان يعيش في حال من اليأس والغشاوة العاطفية، يلتقي بامرأةٍ مُنتهى المُشتهى، تجمع له كل ما رغب في النساء وتمنى. يُغرم بها بشّدة حتى تستحوذ على ما يدور في رأسه من هواجس وأفكار. يجسّد برليوز ذلك الهوس بلحن يتكرر في أرجاء العمل، سيُلهم المؤلف الألماني فاغنر لاحقاً لابتكار "اللحن الدال" على الشخصية في مسرحه الغنائي.
يجسّد برليوز العشق المُلتهب موسيقياً بإطالة الاحتقان الهارموني وتجنّب الانحلال في قرار المقام الرئيس، بل الترحال عوضاً عن ذلك إلى مقامات نائية بعيدة، كأنه يُطيل أمد الحبكة الدرامية إلى ما لانهاية، وينسج على منوالها المزيد من ألوان التوتر بغية تصوير آلام العذاب الناجم عن مُحال الوصال حين لا يكون معلوماً ما إن كانت المعشوقة تسكن أرض الواقع أم عالم الخيال.
أينما راح قلب الفنان وفكره به ثمة وجه محبوبته. لن يُدرك الخلاص منه سوى بزوالها أو بزواله، يلجأ إلى جرعة فائقة من الأفيون تجعله يغيب في حلم يرى فيه نفسه وهو يهمّ بقتلها ليُحاكم على فعلته ويشهد فصول إعدامه بعينيه اللتين، وقبيل أن تُسدلا الجفون عند الرمق الأخير، ستتجلّى أمامهما صورة المعشوقة للمرة الأخيرة، بهيئة اللحن المتكرر والدال، مُعلناً الزوال وبئس المصير.
في مشهد أخير، أقرب إلى أن يكون قبساً من نار الجحيم، يرى الفنان نفسه في الجزء الخامس، وكأنه قد هوى بعد الموت ليقع في صحبة الشياطين والوحوش والسحرة؛ يدبّون ويرقصون من حوله. يظهر لحن المعشوقة الدال من جديد وقد غيّر من مدلوله، فلا عاد يحمل الهوى معه ولا هو يوحي بالحسن أو الجمال، وإنما أمست صورتها شر لعنة قائمة ومصيبة واقعة، لازمته في حياته، وها هي الآن ترافقه في مماته.
من منظور ميكروي - مُصغّر، تتأرجح العبرة بين عاقبة الوقوع في شباك الحب وبراثن المخدرات، من منظور آخر ماكرويّ - مُكبّر تبدو العبرة كأنها إسقاطٌ على واقع عبور سياسي واجتماعي وفكري مرّت به أوروبا منتصف القرن التاسع عشر، من إرهاصات ثورة ساقت رموزا بالملكية إلى المقصلة رافعةً راية التحرر لتُبتلى بعدها بفوضى وحروب وثورات مضادة عقوداً من الزمن وصولاً في النهاية إلى برِّ عقد اجتماعي جديد.