من خلال التسجيلات التي وصلتنا للشيخ الشعشاعي، سواء منها ما كان داخل استوديو أم ما كان في محفل جماهيري، يمكن أن نقول إن صوت الشيخ يمتد على مساحة أوكتافين، يتخذا موقعهما على المدرج الصوتي بين درجتي صول "يكاه" وجواب النوى. لكنه في معظم التسجيلات لا يستخدم هذه المساحة كاملة، فقد يبدأ من "اليكاه"، ثم تكون أعلى درجات صوته في جواب الجهاركاه، وقد يبدأ من "الدوكاه" ثم تكون ذروته الصوتية في جواب النوى.
وفي تسجيل سورتي "الحجرات" و"ق" من بغداد، تجاوز صوته جواب النوى بنصف درجة. ومن المهم جدا أن ننتبه هنا إلى أن كل ما وصلنا من تسجيلات الشيخ كانت بعد أن جاوز الرجل سن الستين، فقد ولد في مارس/آذار من عام 1890، أي أنه بلغ الستين عام 1950، ولم يصلنا له أي تسجيل قبل هذا التاريخ. وقد عاش الرجل سنوات طويلة في حقبة ما قبل مكبرات الصوت، وقرأ في محافل ضمت الآلاف من دون مكبر، وله في هذا الباب وقائع شهيرة، كان بعضها مع الشيخ محمد سلامة، أحد أهم فرسان القراءة المباشرة بلا "ميكروفون"، ما يؤكد أن مساحة صوته كانت أكبر مما أدركناه في ما وصلنا من تسجيلاته.
والشعشاعي، متمكن من صوته تماما، حنجرته في قبضة يده، وبالرغم من أنه أقصر القراء الكبار نفساً، إلا أن تلاوته مشبعة تماماً، وفي بعض الجمل الطويلة، التي لا بد من توقف في منتصفها تقول وأنت تستمع ماذا سيفعل؟ كيف سيتوقف؟ إنه يسير في طريقه ولا يبدو أنه يمهد للتوقف. هل سيقع في منتصف كلمة؟ هل سيضطر إلى وقفة محرجة تغير المعنى؟ لكن سرعة قرار التوقف، واستجابة الجهاز الصوتي عند الشيخ حفظته طوال حياته من الوقوع في حرج انقطاع نفسه منتصف كلمة، أو التوقف على لفظة تعطي معنى ركيكاً، بالرغم من اختياره كثيراً لرواية ورش، ما يزيد من مقادير المدود. وهو في هذا الباب متفرد غاية التفرد، ومن المؤكد أن الاستماع إلى تلاوته يعد درسا نفيسا في التعامل مع الوقف الاضطراري، حتى لأصحاب النفس الطويل، الذين يقعون أحيانا وبسبب سوء التقدير في وقوف لا داعي له.. للشعشاعي هنا إذن درسان: توقيت قرار التوقف، وكيفية تنفيذ التوقف بطريقة محكمة، لقدرته الفائقة على "الفرملة" من دون مقدمات.
استطاع الشعشاعي أن يجعل من قصر نفسه دافعا ووقودا لتكوين جملة تتسم بالكثافة. جملة قد تقل ألفاظها، لكنها مشبعة تماما، يشعر المستمع معها بأبعاد العمق، وثقل الوزن، ونفاسة الجوهر. وفي هذا الجانب، يمكن أن تكون تلاوة الشعشاعي دليلا دامغا على عبثية ما نراه بين قراء هذه الأيام من "مسابقات النفس الأطول"، حتى لو كان ذلك على حساب جمال الجملة وعمقها.
لعل الشيخ الشعشاعي هو أكثر قراء حقبة ما قبل مصطفى إسماعيل هندسة للتلاوة، وتقديم المقامات في مقاطع واضحة يضمها إطار جامع، يتسم بقدر من البنائية؛ فتلاوة أعلام القراء في هذه الفترة، كانت كحديقة أزهار لا سور لها، رغم جمالها وروعتها، كما نرى هذا بوضوح عند الشيخ طه الفشني، الذي يمكن أن نعتبر تلاوته حبات من اللؤلؤ لا ينظمها عقد.
الشيخ يدخل المستمع إلى عالمه من لحظة الاستهلال، ولا يستغرق وقتا طويلا للتصعيد الصوتي، كما أنه لا يجعل من الجواب المنتهي بقفلة حراقة هدفا وحيدا، ولا يجعل الجوابات محطات قريبة تكون الجمل بينها مجرد استراحة، وتؤدى فيها الكلمات سردا خاليا من الجماليات، فهو يتفنن في كل جملة، بل في كل لفظة، ليظل المستمع المنتبه في أسر صوته، مأخوذا بأجواء درامية، وخيال تصويري واسع مرهف.
ومع كل الانتباه والحذر، وتجنب الوقوع في كلام إنشائي، ومع الإقرار بأن عبارة "تصوير المعنى" قد ابتذلت كثيرا في السنوات الأخيرة، وأصبحت وصفا مشاعا يطلقه كل مستمع على من يحب من القراء.. مع كل هذا، فمن الصعب أن يتكلم متكلم أو يكتب كاتب عن الشعشاعي من دون أن يقر بمرتبته العليا في التعبير الصوتي، والأداء التمثيلي، والتصوير بالغ العمق للمعاني، ليصدق فيه وصف عمار الشريعي بأنه "أستاذ الدراما في دولة التلاوة". وربما كانت هذه الميزة ما جعل مقرئا بوزن مصطفى إسماعيل وخبرته مصراً على اختيار الشعشاعي كلما سئل عن قارئه المفضل.
الغالب أن الشيخ الشعشاعي كان أكثر القراء استخداما لأسلوب القفلة بالهبوط من الجواب إلى القرار هبوطا فوريا، لا سُلَّميا، كأن يكون على درجة "المحير" ثم يقفل بالهبوط المباشر إلى درجة الدوكاه، أو أن يكون على درجة "الكردان" فيهبط فورا إلى درجة "الراست".. صحيح أن بعض كبار قرائنا استخدم هذه الطريقة في بعض تلاواته، ونذكر منهم مصطفى إسماعيل، وطه الفشني، إلا أن الشعشاعي أكثر منها، وأداها بأسلوب قوي مدهش، فصارت كأنها خاصة به، ومقصورة عليه.
ظل الشيخ الشعشاعي يجمع بين تلاوة القرآن وبين أداء التواشيح، حتى بلغ سن الأربعين حين توقف تماما عن الإنشاد الديني عام 1930، وتفرغ تماما للتلاوة بعد أن ذاعت شهرته في أنحاء القطر المصري قبل عصر الإذاعات، لكنه كان قد اكتسب خبرة أدائية صقلت موهبته الكبيرة وصوته المقتدر، تلك الخبرة التي تظهر بجلاء في طريقة انتقاله من مقام إلى آخر بأسلوب فيه قدر كبير من التلطف، حتى لا يكاد المستمع العادي يشعر بنقلته، ولا بتغيير مساره النغمي.. وكل هذه المميزات أهلته لأن تختاره الإذاعة ليتناوب التلاوة مع الشيخ محمد رفعت.. لم يكن في عقد الثلاثينيات صوت أجدر من صوت الشعشاعي لاقتسام التلاوة الإذاعية مع قارئ بوزن محمد رفعت.
ومن المعالم التي لا يمكن تجاوزها عند الحديث عن الشيخ الشعشاعي، أسلوب الرجل في "ختم التلاوة".. وهنا يمكن أن نقول بلا حذر إن الشعشاعي كان أهم قراء مصر في التمهيد لإنهاء التلاوة. كان يستجمع كل طاقته الفنية والشعورية في الكلمات الأخيرة قبل "التصديق".. يشعرك بأنه يودعك، وأن الوقت الجميل الذي قضيته معه قد انقضى. لقد جعل الرجل من "الختام" فنا شعشاعيا خالصا لا يشاركه في أحد.
ويمكننا أن نشير هنا إلى ختام تلاوته من سورة النساء بآية "ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما" أو بختام تلاوته من قصار السور والفاتحة وأول البقرة، وأدائه لآية "أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون"، ولا أظن أن مستمعا ينسى ختامه الخالد لتلاوته من سورة يوسف حين يقول: "ولما جهزهم بجهازهم قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين. فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون. قالوا سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون". لا أظن أن في تاريخ التلاوة المسجل أداء لختام أعظم من ختام هذه التلاوة.. وفي نهاية كل تلاواته، تأتي "التصديقة" الشعشاعية المميزة شديدة الفخامة.
يحسن بمن يكتب عن قارئ أو فنان أن يقيم سدا منيعا بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي، بين النقد العلمي والذوق الشخصي، وأن يتجنب المساحة الانطباعية التي لا يمكن ردها إلى قواعد أو مقاييس، هذا حق لا مرية فيه.. لكن من الحق أيضا أن ننتبه إلى أن أكثر المستمعين من أصحاب الوعي والذائقة حين يتكلمون عن الشيخ عبد الفتاح الشعشاعي فإنهم جميعا يستخدمون مفردات وتعبيرات يمكن ردها كلها إلى معنى واحد هو "الهيبة".. فما من مرة يذكر اسم الشعشاعي إلا وكان وصف الهيبة قرينا لاسمه وأدائه. كانت "هيبة التلاوة" إرث الشعشاعي، تركها متعة فنية وروحية للمستمعين.. ودرسا بليغا لمن أتى بعده من المقرئين.