قرر المخرج الفلسطيني- الألماني حسام وهبه الذهاب إلى فرنسا، ليعود من هناك بفيلم "إيقاع الخوف" الوثائقي، ومدته سبعون دقيقة، متناولاً قصص ثلاث عائلات فرنسية مسلمة، بات تاريخها مرسوماً بقسوة... ما قبل يوم الشاحنة وما بعده.
الفيلم الذي استضافته سينما "مطافئ-مقر الفنانين" بالعاصمة القطرية الدوحة، مساء الأربعاء الماضي يرصد التحولات النفسية والاجتماعية لهذه العائلات، في قالب درامي، داخل مدينة نيس المشهودة بجمالها وتعدد هويتها الثقافية والدينية، والتطورات التي طرأت عليها وعلى نسيجها الاجتماعي بعد الهجوم.
فهذا إيقاع الخوف الذي طوّح بالجميع، ولكن جزءاً منه خوف من وجودك المختزل في لون أو دين.
المواطنة الموروثة من الأجداد، بناة فرنسا الحديثة بإسهام كبير لا تعود ذات شأن أمام اللحظة المجنونة الدامية، كذلك خوف الفرنسي الأوروبي من أي ظل غريب تختصره صيحة امرأة في الشارع "إن هؤلاء يهددون تقاليدنا الجمهورية".
كان الخوف في حدوده الانتخابية بضاعة البازار السياسي، إلا أن شاحنة الإرهاب دفعت المجتمع إلى الحافة. إلى فوبيا أخرى تحتاج إلى إسعافات أولية للبقاء.
مشهد أبناء عائلة الشريحي وقد زاروا المكان الذي عجنت أمهم فيه تحت العجلات أمام أعينهم يختصر الكثير. وصلوا ومعهم باقة ورد، حال المئات الذين يضعون الباقات معبرين عن حزنهم. لكنهم –فوق مصابهم- أهينوا بشتائم عنصرية.
إن طاهر الماجري الفرنسي من أصل تونسي الذي قتل الإرهابي ابنه ذا الأربع سنوات ونصف وزوجته السابقة، يكاد يفقد عقله وهو يمسك بدراجة ابنه ويدفن وجهه في ملابس صغيرة. ما زالت رائحته هنا. الإرهابي الذي سال دمه على مقود الشاحنة برصاص الشرطة هو الحويج بوهلال، من أصل تونسي أيضاً. يصرخ الماجري في السماء التي رحل إليها القاتل والقتيل "ربي لم يقل أن نقتل الناس".
من يشاهد "إيقاع الخوف" يلحظ بلا شك نجاح المخرج في الابتعاد عن استنطاق الشخوص على نحو صحافي، بل لا يبدو في أي مشهد لذوي الضحايا أنهم يتحدثون رداً على أسئلة.
ماذا يعني هذا؟ يعني أن الكاميرا وطاقم العمل استطاعا تجاوز التحفظ المتوقع عند المتحدثين في الأفلام الوثائقية، وبالتعايش تمكنا من إخراج الإمكانيات التعبيرية.
هذا النوع من الجهد تفتقر إليه موجة من الأفلام الوثائقية، لا تفعل شيئاً سوى أن تطيل الريبورتاج من ثلاث دقائق إلى ما بعد النصف ساعة. تستثمر الحدث على طريقة محاضر الشرطة، أو على طريقة تقارير التلفزيون التي تذهب لأم وتسألها "ما شعورك بعد استشهاد ابنك؟"، والمصور يعرف ماذا عليه أن يفعل. إنه يقترب بالكاميرا ليحصل على لقطة close، لدمعة الأم المكلومة.
يقول المخرج حسام وهبه لـ"العربي الجديد": بما أن الفيلم يدور حول أشخاص تحت الصدمة، قررتُ بناءه على المراحل التي يمر بها الناس في هذا الظرف: الصدمة أولاً، وعدم تصديق ما حدث، والغضب والرغبة في الانتقام، ثم إدراك ما وقع والتعايش معه، وأخيراً النظرة إلى المستقبل.
أديرت مشاهد الفيلم بيد مخرج واضحة التدبير لكن كأنها يد غير مرئية. أبعدها أثراً سير سميرة رويبح نحو بيت الإرهابي. سميرة الأم التي فقدت وحيدها "يانس" ابن الثماني سنوات، الذي قبل أن يقتل كانت أمه تضحك من خط الشوكلاته على وجهه، وهو يأكل البوظة.
تقرع سميرة باب جارة تسكن في شقة مقابل شقة القاتل، وتقودها الجارة إلى الخارج، حيث تظهر نافذة القاتل منشور على حديدها منشفته وقميصه، وفي مدخل العمارة صندوق بريد يحمل اسمه.
سميرة والجارة وطفلتها أمام آثار خرساء للإرهابي... منشفة وقميص يلعب بهما الهواء والشمس والليل، وصندوق بريد، وامرأة وفرت أسئلتها التي صرختها سابقاً، والآن ها هي تطيل النظر في المكان الذي كان يعيش فيه القاتل.
حول معايشة الضحايا لإنجاح ظهورهم في الفيلم يقول وهبه: للتغلب على حاجز اللغة استعنت بفتاة تتقن اللغتين العربية والفرنسية من مدينة نيس. لم تكن لديها معرفة بآلية العمل في الفيلم الوثائقي، ولا الفرق بين المقابلة الصحافية والمقابلة الفيلمية.
في اليوم الأول للتصوير مع عائلة الشريحي المنكوبة بفقدان الأم، فشل اللقاء بسبب أسئلة الصحافية التي قطعت الحديث من خلال: كيف ومتى وماذا؟
أوقفتُ التصوير، وقضيتُ بقية اليوم مع العائلة، ما منحني فرصة الاقتراب منها. حددت موعداً جديداً للتصوير بعد يومين، دربت فيهما الفتاة المترجمة تدريباً مكثفاً على تقنيات الانطلاق من الأمور البسيطة الصغيرة. البسيط هو ما نريده قبل أن نصل إلى الأمور الكبيرة والمركزية.
هل نالك شيء من "إيقاع الخوف" وأنت تشتغل على فيلمك؟
المشاكل اللوجستية دافع للإبداع. أنت غريب ولا تعرف شيئاً عن المدينة التي ستصور بها. ولأني أردت صناعة فيلم وثائقي درامي، رفضت أن تساعدني شركة فرنسية في إنتاج الفيلم لأسباب لها علاقة بمفهومي السينمائي.
فريق الفيلم الوثائقي الدرامي يجب أن يحضر منذ البداية، وينمو مع الفكرة، ويجب إشراكه في كل النقاشات حول تطوير الفكرة. بهذه الطريقة يصبح جزءا لا يتجزأ من روح الفيلم. ولهذا رضيت أن أكون شبه أعمى في نيس.
وضعنا في مواقف صعبة. فجأة هاجمتنا الشرطة الفرنسية ولم يكن معنا إذن بالتصوير من البلدية. تعاملنا مع الموضوع بحكمة، وأخبرناهم أننا نصور فيلماً ثقافياً في مدينة نيس. هذا الأمر أعاقنا بضع ساعات، كنا فيها بحاجة لكل دقيقة، نظراً لقصر الوقت الممنوح لإنتاج الفيلم.
في مرة هاجمنا أحد المتطرفين العنصريين وحضرت الشرطة، وأضعنا وقتاً. وفي يوم قررت أن أصور واجهات البيوت في أحد أحياء مدينة نيس، وخلال دقائق حضرت الشرطة بناء على بلاغ من أحد سكان الحي الفرنسيين.
من هنا أدركت كم هو الخوف الذي يخيم على المدينة بعد الاعتداء. كل من هو غريب أسود الشعر يثير الريبة. أطلقت الشرطة سراحنا بعد بضع ساعات، وقد أخبرتهم أننا نصور واجهات البيوت، لأننا ننجز فيلماً عن المعمار في مدينة نيس.
في الحقيقة كنت أتلمس شعور الخوف والنظرات العنصرية في كل مكان. المسلمون هناك أيضاً يتحدثون عن العنصرية ضدهم، لكن لا أحد من الفرنسيين يتحدث عن ذلك علانية أمام كاميرتي. لهذا جلبت فتاة عربية فرنسية من نيس ومعها لافتة مكتوب عليها "هل المسلمون إرهابيون؟" ودفعتها إلى الشارع مع مراقبتها بكاميرا خفية. هكذا حصلنا على بعض الأحاديث العنصرية.
ماذا يعني الشعور باللحظة لمخرج فيلم وثائقي درامي؟
يعني ذلك الحصول على مشاهد عفوية ذات مصداقية عالية وبمحض المصادفة. مشاهد غير مخطط لها تحدث أمام عينيك، فإما أن تلتقطها أو لا. لا مجال لإعادتها لأنها ستبدو مزيفة.
مشاهد الشعور باللحظة كالأحجار الكريمة التي ترصع الفيلم، وتضيف له جمالاً وأصالة وعمقاً. هذا يتطلب من صانع الفيلم وفريقه يقظة، وتركيزاً وسرعة في الأداء، وهو أمر صعب جداً في مدينة لا تعرفها، وكل خطوة فيها تُحسب بألف حساب.
في نزهة بعد يوم عمل شاق، عثرت مساء على موسيقي مقنّع ولم تكن معنا معدات التصوير، فركضنا لإحضارها وضللنا طريقنا. وحين عدنا لم نجد الرجل. ظللت آتي يومياً إلى ذات المكان، أنتظر الموسيقي المقنّع حتى التقيته بعد أسبوع.
تأملت مشهد الرجل مرات ومرات على طاولة المونتاج، فوجدت ما أبحث عنه. الرجل مقنع، هناك جانب آخر لوجهه خلف القناع، يخفي ربما الحزن أو يلملم جراحه بعيداً عن الأعين، لكنه يعزف موسيقى تدعو إلى الحياة والأمل. وهذا بالضبط ما أبحث عنه، لكي أعكس روح المدينة الجميلة بعد الحادث الإرهابي.
أما القصة الثانية فتتعلق بالفتاة المراهقة من عائلة الشريحي من أصول مغربية، والتي فقدت أمها. كانت طيلة الوقت بصحبة صديقتها ذات الملامح الفرنسية. الفتاة الفرنسية لم تكن في الحسبان. ولسبب ما قررت أن تكون شخصية فرعية في الفيلم. أرادت أن تواسي صديقتها المغربية فغنت لها أغنية دون سابق تخطيط للمغنية سيلون ديون. يا إلهي! شعرت أن صوت الفتاة يزلزلني، رغم أنني لم أفهم النص. حدستُ بأنني عثرت على جوهرة. بالفعل استخدمت صوتها في موسيقى الفيلم.
المفاجأة الكبرى أن الفتاتين قدمتا لي أهم رسالة ضد العنصرية، بجمل بسيطة ومعبرة، زادها قوة أن تلك الفتاة الفرنسية يهودية الديانة، ولم أكن أعرف ذلك.
القصة الثالثة مع سميرة الفرنسية من أصول جزائرية وهي إحدى ركائز الفيلم. حين تعرفت إليها أدركت أنها شخصية سينمائية لها حضور يأسر المُشاهد. قررت أن أضعها أمام بيت الإرهابي. هذا المشهد تطلب جهدا تقنياً كبيراً لتنفيذه مع الحفاظ على عفويته، إضافة إلى جهد جبار لإقناع سميرة بالذهاب إلى بيت القاتل، لتواجه الحقيقة وجهاً لوجه والتصالح معها.
دار حديث عفوي بسيط مع جارة الإرهابي. وهناك عرفت سميرة بأن قاتل طفلها ساقط أخلاقياً. وهذا ربما قدم لها شيئاً من العزاء.