تشعر وأنت تسير في شوارع مدريد أن الهواء يردد قصائد لوركا، إذ لا تخلو ساحة من شيء يذكر به. ولعل الأغرب والأكثر دهشة هو أن ترى مقاطع كاملة من قصائده محفورة على حجارة الطريق التي تسير عليها، مثلما هي في شارع لابابيز الطويل، ولربما كان تأثير الموروث من الأدب في شخصية سكان إسبانيا من الأعلى في العالم. إذ يفخر الإسباني بسرفانتس مثلا كأحد أعمدة هويته وماضيه، ويعتبر أن لوركا وماتشادوا قد نقلا الوجع الإسباني لكل العالم، فقد حملا مع المجروحين من الحرب المجنونة جراحهم ونزفها في قصائدهم التي ترجمت معاناتهم لكل لغات الأرض. وللتدليل على ذلك، يأخذك الإسباني من يدك لزيارة بيوت هؤلاء الشعراء كأهم ما عليك أن تراه في مدينته هذه.
أقف أمام تمثال لوركا في ساحة سانتا آنا الشهيرة، لوركا الشاعر الذي ظل يلقي قصائده حتى وهم يقومون بإعدامه، كان يعرف أن القصائد لا تموت، حتى ولو أطلق عليها كل رصاص العالم. أقف أمام تمثاله مع جموع كبيرة، وأنادي القصائد في دمشقي أن تعرف ما عرف، وأقول لها يا قصائدنا اليتيمة الطالعة الآن من عيون كل طفل: ستكبرين وتشهدين، وسيأتي يوم يعرفك كل العالم، وتصيرين محفورة على حجارة دمشق القديمة، وستنهضين مثل ياسمينها تجرحين بأظافرك البيضاء هذا القلب.
وهنا على بعد قليل من التمثال، يوجد بيت لوركا في مدريد، وهو البيت الذي عاش فيه هذا الشاعر الغرناطي الأصل بعضاً من حياته، والذي حولته مدريد الآن إلى مكان يحج إليه الناس، ويقفون ببابه تاركين لأرواحهم متعة هذا الوجود، ولو لزمن قصير فيه.
هنا يحضر في ذهني نزار قباني المنفي عن دمشق وبيته الذي لم يكن يزوره إلا غيابه عنه.
نترك ساحات مدريد لنسير باتجاه قلعتها ذات الاسم العربي، ولنصل هناك إلى بيت سرفانتس الشهير. أمام البيت تمثالان هما لدون كيخوته ولخادمه سانشا، وطابور طويل من الواقفين منتظرين دورهم لدخول هذا البيت، أقف أمام التمثالين ألامس دون كيخوته وأعترف كم دون كيخوت مات فينا، وكم ستكتبنا الروايات على شواهد القبور.
أنتظر مع المنتظرين، لكن الحقيقة أني أعود إلى دمشق الهاربة مني والهاربة منها، وهناك أسأل التاريخ، لماذا لم تحتف يوماً ببيوت كتابنا، لماذا لا يكون ضريح ابن عربي مزاراً لكل سياح العالم، لماذا كانوا يدفنون المبدع والكاتب فينا حياً وميتاً، ومتى سيأتي يوم نكرم فيه شهداءنا الذين ماتوا في القصيدة.
أدخل بيت سرفانتس الريفي ذا الطابع العربي، ففيه باحة كبيرة، في وسطها مزروع شجر الليمون، تحوطها غرف البيت ذي الطابقين وذي الأدراج والشبابيك والشرفات الخشبية كبيوت باب توما، أدخل كل غرفة مثلي مثل هذا الطابور الطويل، وأستغرب كيف مازال هذا البيت الذي بني في 1559 إلى الآن محافظاً على طعم الحياة فيه، وعلى شكله وكل موجوداته كأن زمناً لم يمر هنا، فغرف النوم لم تزل بشكلها بذاك الزمن، ولم تزل أغنية كانت تغنيها الأم تتردد من تلك الغرفة الصغيرة التي ولد فيها سرفانتس، وما زالت الدمى التي صنعها لعرض تمثيلياته موجودة بكل بهائها، أما مخطوطاته فكأنها خطت في يده الليلة الماضية.
أغادر البيت وصوت أغنية الأم لا يغادرني، كم غنت الأمهات في بلدي للأطفال كي يناموا، وهل حمتهم الأغاني من صوت الطائرات والقذائف.
تأخذنا الطريق إلى مدينة قريبة من مدريد، تأخذنا إلى سيغوبيا، كي نزور فيها بيت أنتونيو ماتشادو، الشاعر الذي عاشت كل تفاصيل أوجاع الحرب في كلماته، وجاء حزنه شفافاً وحاداً فيها، نصل البيت تستقبلنا فيه دالية عنب كانت تعتق خمرها مثلما عتق ماتشادو أوجاع المنسيين في خوابي روحه، ندخل البيت البسيط وهناك كانت قصيدته تطل من الباب حادة وواضحة، وتقول لي ستعيش قصائد إياد شاهين الذي قتله السجن والحرف، وستكبر قصائد ناصر بندق التي مازالت مسجونة معه هناك، وسيعود الشعراء النازحون مع قصائدهم، سيعودون إلى دوالي العنب التي تركوها هناك.
أقف أمام تمثال لوركا في ساحة سانتا آنا الشهيرة، لوركا الشاعر الذي ظل يلقي قصائده حتى وهم يقومون بإعدامه، كان يعرف أن القصائد لا تموت، حتى ولو أطلق عليها كل رصاص العالم. أقف أمام تمثاله مع جموع كبيرة، وأنادي القصائد في دمشقي أن تعرف ما عرف، وأقول لها يا قصائدنا اليتيمة الطالعة الآن من عيون كل طفل: ستكبرين وتشهدين، وسيأتي يوم يعرفك كل العالم، وتصيرين محفورة على حجارة دمشق القديمة، وستنهضين مثل ياسمينها تجرحين بأظافرك البيضاء هذا القلب.
وهنا على بعد قليل من التمثال، يوجد بيت لوركا في مدريد، وهو البيت الذي عاش فيه هذا الشاعر الغرناطي الأصل بعضاً من حياته، والذي حولته مدريد الآن إلى مكان يحج إليه الناس، ويقفون ببابه تاركين لأرواحهم متعة هذا الوجود، ولو لزمن قصير فيه.
هنا يحضر في ذهني نزار قباني المنفي عن دمشق وبيته الذي لم يكن يزوره إلا غيابه عنه.
نترك ساحات مدريد لنسير باتجاه قلعتها ذات الاسم العربي، ولنصل هناك إلى بيت سرفانتس الشهير. أمام البيت تمثالان هما لدون كيخوته ولخادمه سانشا، وطابور طويل من الواقفين منتظرين دورهم لدخول هذا البيت، أقف أمام التمثالين ألامس دون كيخوته وأعترف كم دون كيخوت مات فينا، وكم ستكتبنا الروايات على شواهد القبور.
أنتظر مع المنتظرين، لكن الحقيقة أني أعود إلى دمشق الهاربة مني والهاربة منها، وهناك أسأل التاريخ، لماذا لم تحتف يوماً ببيوت كتابنا، لماذا لا يكون ضريح ابن عربي مزاراً لكل سياح العالم، لماذا كانوا يدفنون المبدع والكاتب فينا حياً وميتاً، ومتى سيأتي يوم نكرم فيه شهداءنا الذين ماتوا في القصيدة.
أدخل بيت سرفانتس الريفي ذا الطابع العربي، ففيه باحة كبيرة، في وسطها مزروع شجر الليمون، تحوطها غرف البيت ذي الطابقين وذي الأدراج والشبابيك والشرفات الخشبية كبيوت باب توما، أدخل كل غرفة مثلي مثل هذا الطابور الطويل، وأستغرب كيف مازال هذا البيت الذي بني في 1559 إلى الآن محافظاً على طعم الحياة فيه، وعلى شكله وكل موجوداته كأن زمناً لم يمر هنا، فغرف النوم لم تزل بشكلها بذاك الزمن، ولم تزل أغنية كانت تغنيها الأم تتردد من تلك الغرفة الصغيرة التي ولد فيها سرفانتس، وما زالت الدمى التي صنعها لعرض تمثيلياته موجودة بكل بهائها، أما مخطوطاته فكأنها خطت في يده الليلة الماضية.
أغادر البيت وصوت أغنية الأم لا يغادرني، كم غنت الأمهات في بلدي للأطفال كي يناموا، وهل حمتهم الأغاني من صوت الطائرات والقذائف.
تأخذنا الطريق إلى مدينة قريبة من مدريد، تأخذنا إلى سيغوبيا، كي نزور فيها بيت أنتونيو ماتشادو، الشاعر الذي عاشت كل تفاصيل أوجاع الحرب في كلماته، وجاء حزنه شفافاً وحاداً فيها، نصل البيت تستقبلنا فيه دالية عنب كانت تعتق خمرها مثلما عتق ماتشادو أوجاع المنسيين في خوابي روحه، ندخل البيت البسيط وهناك كانت قصيدته تطل من الباب حادة وواضحة، وتقول لي ستعيش قصائد إياد شاهين الذي قتله السجن والحرف، وستكبر قصائد ناصر بندق التي مازالت مسجونة معه هناك، وسيعود الشعراء النازحون مع قصائدهم، سيعودون إلى دوالي العنب التي تركوها هناك.