يصعب الفصل بين الشخصي والمهني، في كلّ كتابة مختصّة برثاء صديق، في رحيله. هذا متأتٍ من حضور الصديق في اليومي والمهني، ومن براعة العلاقة وجماليتها، التي تنشأ بين صداقةٍ مقبلة من قلب المهنة، ومهنةٍ حريصةٍ، غالباً، على تجاوز الذاتيّ ـ الشخصيّ في ممارسة فعلها.
والرهبة تقوى مع تنبّهٍ واضحٍ لحيوية المهنة، المتشابهة وحيوية صداقة تفصل الجغرافيا، أحياناً، بين مرتبطين بها، وتُقوِّي المهنةُ تواصلاً تزداد فعاليته عبر نصٍّ أو تعليقٍ أو سجالٍ أو نميمةٍ أو فضحٍ. وهذا كلّه يمتلك بهاءه، إذْ يكون كاذباً من يتوقّع للمهنة أن تكتفي بعملٍ يتّسم بموضوعيةٍ ما، والعمل نفسه أعجز من أن يكتمل من دون تفاصيل جانبية، تُشكِّل جزءاً أساسياً من المهنة.
يأتيني قولٌ كهذا غداة رحيل صديقٍ يُتقن حِرفية مهنةٍ، يتورّط فيها بشغفٍ وسعيٍ دائمٍ إلى اكتشافاتٍ تنبع من مشاهدات، ولا تنتهي عند أي حدٍّ ممكن. وبرحيله، يُضاف إلى الكتابة الآنيّة عن لحظة الرحيل شيءٌ من ذاكرة معبّأةٍ باشتغالٍ، يجمع التأريخ بالتحليل، ويُحوِّل النصّ المكتوب إلى نوعٍ من مرايا، تكشف وتُعرّي، من دون أن تتغاضى عن مهنيّة التوثيق.
يغوص بشّار إبراهيم (1962 ـ 2017) في السينما المصنوعة في فلسطين وعنها، وهو غوص يُتيح لمتابعه إمكانية التعرّف والاطّلاع، المختلطين بموقفٍ ورأي، والمُضافين إلى تحليل ومشاكسة. وينتبه إلى السينما السورية، جاعلاً نصّه استعراضَ حالة، وتصوير واقع، والتقاط نبض مسارٍ. هذا ما يُظهره النصّ؛ وهذا ما يصنع من كتابته السلسة ـ والمتحرِّرة من كلّ فذلكةٍ يقع فيها آخرون (ولن أستثني بعض كتاباتي من وصفٍ كهذا)، ومن كلّ تسطيح وتسرّع ولامبالاة، كما في مقالاتٍ عربية كثيرة، تدّعي وتتصنّع ولا تقول شيئاً مفيداً ـ ركيزةً توضح وتُفسِّر، وهي تستعين بمفرداتٍ بسيطة، وكتابة مُعبِّرة، وجملٍ تمنح قارئها معطى معرفيّاً، ونظرة شخصية، هي نتاج متابعة وموقف.
لن تكون المفاجأة برحيل بشّار إبراهيم أقوى وأحدّ، من تلك الكامنة في قدرته على إشاعةِ مناخٍ من التفاؤل والمرح والضحك والسخرية، في لحظات ألمه، وانتصار المرض عليه تدريجياً. ومع أن سرطان الحنجرة، المُصاب به منذ عامين تقريباً، يتسلّل بهدوءٍ وقسوة إلى مناحي الجسد، إلّا أن لبشّار إبراهيم قوة تمنعه من الاستسلام لحزنٍ أو نكدٍ أو بكائيات. والمواجهة، التي يتفنَّن في صُنع مفرداتها وآليات عملها، تعثر في المُشاهدة السينمائية والتلفزيونية على منبعٍ لا ينضب من المتع، القادرة على تفعيل المواجهة، وتقويتها، ودفعها إلى أقصى أنماط السخرية من المرض والموت معاً. وربما من الحياة أيضاً، التي يعرف، غالباً، كيفية عيشها.
والمُشاهدة لن تبقى أسير علاقة ثنائية خاصّة وحميمية بينه وبين أفلام وأعمال يجتهد في الحصول عليها، ومتابعتها، والنظر إليها مراراً وتكراراً، كمن يرغب في تمديد لحظات الفرجة إنْ يكن الصنيع مريحاً وجميلاً، أو كمن يريد معرفة سبب وقوع الصنيع في أمرٍ ما، يحول دون مشاهدة مُكرَّرة.
هكذا، يُعلي بشّار إبراهيم من أهمية المُشاهدة، فتأتي الكتابة لاحقاً، كنوعٍ مختلف من المُشاهدة الإضافية. والمُشاهدة، بالنسبة إليه، لن تكتمل إلّا بملاحقة تطوّرات التكنولوجيا المتنوّعة، التي تعينه على بلوغ مُراده، أو بإصرارٍ لا يملّ على "تكليف" زملاء وأصدقاء له بجلب نسخٍ من أفلامٍ وأعمالٍ يريد مشاهدتها، فيحتفظ بها في أمكنةٍ خاصّةٍ به. أما القول بأولوية المُشاهدة لديه، فلن ينتقص أبداً من انجذابه إلى كتابةٍ، تُدرك تقنية الصحافة، الممتلئة غالباً بحيوية النقد، وتُحوِّل رغبته في قولٍ نقديّ إلى بحثٍ يتجاوز النصّ المبسّط إلى سردٍ، يسمح للتأريخ التوثيقي أن يُدعِّم النص، ويُحصِّن العمل من كلّ اندثارٍ.
صحيحٌ أن بشّار إبراهيم متلهِّفٌ، في حياته المهنيّة النقدية، إلى صناعة سينمائية تشهدها فلسطين وسورية تحديداً، فيُطاردها بحبّ صافٍ، كي يعرف مساراتها، ويروي بعض حراكها، في كتابةٍ تميل إلى بوحِ عاشقٍ مطمئنٍ إلى شغفه بالصورة؛ لكنه ـ عند أي سؤالٍ يختصّ بما يحدث، بصرياً، في دول خليجية ـ يقول رأياً، بعد أن يُقدِّم معلومة مشبعة بمعطيات عملية. وصحيحٌ أن تشجيعه يتفوّق، أحياناً، على واقعٍ يشي بتواضعٍ لن يتحوّل إلى ابتكارٍ؛ لكنه يُدرك أن تشجيعاً كهذا لن يُضرّ، لأنه يضع المُشجَّع أمام نفسه، فيرى ما يُفترض به أن يراه.
تفاؤل وحيوية وعشقٌ لا يُستهان بها، أمورٌ تُميّز بشّار إبراهيم في علاقته بالصورة والنص والحياة. أما النميمة، فلعبةٌ نمارسها جميعنا. والذهاب، أحياناً، إلى "الصحافة الصفراء"، فضحاً وإدانةً، جزءٌ من مهنةٍ، ينتقي بشّار إبراهيم أهدافه من أجلهما (الفضح والإدانة)، غافلاً أهدافاً أسوأ. وهذا فعلٌ لن يكون صائباً أو حقيقياً البتّة إنْ تنصّلنا منه جميعنا، لأننا جميعنا نرغب في هذا، فنكتفي، غالباً، بقوله في سهراتٍ لن تخلو، أبداً، من فظائع النميمة، وجمالها أيضاً.
يبقى قولٌ أخير عن كتابةٍ، أعترف أنها خليطٌ متواضعٌ من احترامٍ لنص بشّار إبراهيم وشغفه بمُشاهدةٍ وكتابةٍ ومشاكسةٍ، ورغبةٍ ذاتية في سرد بعض الهوامش، التي تساهم في تشكيل سيرة رجلٍ لم يكن يُثنيه شيءٌ البتة عن مطاردة السينما، سوى الموت.
اقــرأ أيضاً
والرهبة تقوى مع تنبّهٍ واضحٍ لحيوية المهنة، المتشابهة وحيوية صداقة تفصل الجغرافيا، أحياناً، بين مرتبطين بها، وتُقوِّي المهنةُ تواصلاً تزداد فعاليته عبر نصٍّ أو تعليقٍ أو سجالٍ أو نميمةٍ أو فضحٍ. وهذا كلّه يمتلك بهاءه، إذْ يكون كاذباً من يتوقّع للمهنة أن تكتفي بعملٍ يتّسم بموضوعيةٍ ما، والعمل نفسه أعجز من أن يكتمل من دون تفاصيل جانبية، تُشكِّل جزءاً أساسياً من المهنة.
يأتيني قولٌ كهذا غداة رحيل صديقٍ يُتقن حِرفية مهنةٍ، يتورّط فيها بشغفٍ وسعيٍ دائمٍ إلى اكتشافاتٍ تنبع من مشاهدات، ولا تنتهي عند أي حدٍّ ممكن. وبرحيله، يُضاف إلى الكتابة الآنيّة عن لحظة الرحيل شيءٌ من ذاكرة معبّأةٍ باشتغالٍ، يجمع التأريخ بالتحليل، ويُحوِّل النصّ المكتوب إلى نوعٍ من مرايا، تكشف وتُعرّي، من دون أن تتغاضى عن مهنيّة التوثيق.
يغوص بشّار إبراهيم (1962 ـ 2017) في السينما المصنوعة في فلسطين وعنها، وهو غوص يُتيح لمتابعه إمكانية التعرّف والاطّلاع، المختلطين بموقفٍ ورأي، والمُضافين إلى تحليل ومشاكسة. وينتبه إلى السينما السورية، جاعلاً نصّه استعراضَ حالة، وتصوير واقع، والتقاط نبض مسارٍ. هذا ما يُظهره النصّ؛ وهذا ما يصنع من كتابته السلسة ـ والمتحرِّرة من كلّ فذلكةٍ يقع فيها آخرون (ولن أستثني بعض كتاباتي من وصفٍ كهذا)، ومن كلّ تسطيح وتسرّع ولامبالاة، كما في مقالاتٍ عربية كثيرة، تدّعي وتتصنّع ولا تقول شيئاً مفيداً ـ ركيزةً توضح وتُفسِّر، وهي تستعين بمفرداتٍ بسيطة، وكتابة مُعبِّرة، وجملٍ تمنح قارئها معطى معرفيّاً، ونظرة شخصية، هي نتاج متابعة وموقف.
لن تكون المفاجأة برحيل بشّار إبراهيم أقوى وأحدّ، من تلك الكامنة في قدرته على إشاعةِ مناخٍ من التفاؤل والمرح والضحك والسخرية، في لحظات ألمه، وانتصار المرض عليه تدريجياً. ومع أن سرطان الحنجرة، المُصاب به منذ عامين تقريباً، يتسلّل بهدوءٍ وقسوة إلى مناحي الجسد، إلّا أن لبشّار إبراهيم قوة تمنعه من الاستسلام لحزنٍ أو نكدٍ أو بكائيات. والمواجهة، التي يتفنَّن في صُنع مفرداتها وآليات عملها، تعثر في المُشاهدة السينمائية والتلفزيونية على منبعٍ لا ينضب من المتع، القادرة على تفعيل المواجهة، وتقويتها، ودفعها إلى أقصى أنماط السخرية من المرض والموت معاً. وربما من الحياة أيضاً، التي يعرف، غالباً، كيفية عيشها.
والمُشاهدة لن تبقى أسير علاقة ثنائية خاصّة وحميمية بينه وبين أفلام وأعمال يجتهد في الحصول عليها، ومتابعتها، والنظر إليها مراراً وتكراراً، كمن يرغب في تمديد لحظات الفرجة إنْ يكن الصنيع مريحاً وجميلاً، أو كمن يريد معرفة سبب وقوع الصنيع في أمرٍ ما، يحول دون مشاهدة مُكرَّرة.
هكذا، يُعلي بشّار إبراهيم من أهمية المُشاهدة، فتأتي الكتابة لاحقاً، كنوعٍ مختلف من المُشاهدة الإضافية. والمُشاهدة، بالنسبة إليه، لن تكتمل إلّا بملاحقة تطوّرات التكنولوجيا المتنوّعة، التي تعينه على بلوغ مُراده، أو بإصرارٍ لا يملّ على "تكليف" زملاء وأصدقاء له بجلب نسخٍ من أفلامٍ وأعمالٍ يريد مشاهدتها، فيحتفظ بها في أمكنةٍ خاصّةٍ به. أما القول بأولوية المُشاهدة لديه، فلن ينتقص أبداً من انجذابه إلى كتابةٍ، تُدرك تقنية الصحافة، الممتلئة غالباً بحيوية النقد، وتُحوِّل رغبته في قولٍ نقديّ إلى بحثٍ يتجاوز النصّ المبسّط إلى سردٍ، يسمح للتأريخ التوثيقي أن يُدعِّم النص، ويُحصِّن العمل من كلّ اندثارٍ.
صحيحٌ أن بشّار إبراهيم متلهِّفٌ، في حياته المهنيّة النقدية، إلى صناعة سينمائية تشهدها فلسطين وسورية تحديداً، فيُطاردها بحبّ صافٍ، كي يعرف مساراتها، ويروي بعض حراكها، في كتابةٍ تميل إلى بوحِ عاشقٍ مطمئنٍ إلى شغفه بالصورة؛ لكنه ـ عند أي سؤالٍ يختصّ بما يحدث، بصرياً، في دول خليجية ـ يقول رأياً، بعد أن يُقدِّم معلومة مشبعة بمعطيات عملية. وصحيحٌ أن تشجيعه يتفوّق، أحياناً، على واقعٍ يشي بتواضعٍ لن يتحوّل إلى ابتكارٍ؛ لكنه يُدرك أن تشجيعاً كهذا لن يُضرّ، لأنه يضع المُشجَّع أمام نفسه، فيرى ما يُفترض به أن يراه.
تفاؤل وحيوية وعشقٌ لا يُستهان بها، أمورٌ تُميّز بشّار إبراهيم في علاقته بالصورة والنص والحياة. أما النميمة، فلعبةٌ نمارسها جميعنا. والذهاب، أحياناً، إلى "الصحافة الصفراء"، فضحاً وإدانةً، جزءٌ من مهنةٍ، ينتقي بشّار إبراهيم أهدافه من أجلهما (الفضح والإدانة)، غافلاً أهدافاً أسوأ. وهذا فعلٌ لن يكون صائباً أو حقيقياً البتّة إنْ تنصّلنا منه جميعنا، لأننا جميعنا نرغب في هذا، فنكتفي، غالباً، بقوله في سهراتٍ لن تخلو، أبداً، من فظائع النميمة، وجمالها أيضاً.
يبقى قولٌ أخير عن كتابةٍ، أعترف أنها خليطٌ متواضعٌ من احترامٍ لنص بشّار إبراهيم وشغفه بمُشاهدةٍ وكتابةٍ ومشاكسةٍ، ورغبةٍ ذاتية في سرد بعض الهوامش، التي تساهم في تشكيل سيرة رجلٍ لم يكن يُثنيه شيءٌ البتة عن مطاردة السينما، سوى الموت.