بعد الثورة الإسلامية في إيران، "استولت" النساء على الفنّ الأكثر شعبية، وباتت السينما وجهة تُشارك فيها السينمائيات، وضرورة لانتقاد المجتمع وطرح مشاكل المرأة. قبل الثورة، كنّ 3 مخرجات فقط، صنعت كلّ واحدة منهنّ فيلماً واحداً. بعدها، بلغ عددهنّ 30. غيّرت الثورة مكانة النساء في المجتمع الإيراني، فتنامى دورهنّ، وبتْنَ محطّ اهتمام. ربما يرى البعض في هذا تناقضاً، لكنّه تناقضٌ ظاهريّ.
أيام الشاه، كانت هناك شهلا رياحي ومارفا نبيلي وفروغ فرخزاد، الشاعرة الإيرانية التي شرّع "البيت مُظلم" (1962)، فيلمها الوثائقي القصير عن مرضى الجذام، الأبواب أمام إبداع الموجة الجديدة في السينما الإيرانية. باستثنائهنّ، اقتصرت مشاركة المرأة على التمثيل، وفي الفترة السابقة على الثورة مباشرة، كانت الأفلام تظهرها كغرضٍ للمتعة الجنسية. لذلك، نُظر إلى السينما كممثّلة للنظام، وكفضاءٍ للفساد والتقليد السيئ للغرب. وكان "لا بدّ" من حرق صالات العرض صبيحة الثورة، لتمثيلها "صورة عن الانحطاط الذي أرادت الثورة إدانته"، كما تقول عسل باقري، المتخصّصة بالسينما الإيرانية.
في بداية الثورة، بات الوضع مُعقّداً. لم يعد هناك سوى عدد محدود من النساء أمام الكاميرا وخلفها. كانت المرأة ديكوراً، لا لقطات مقرّبة لها ولا أدوار ورعة. كان هذا متعارف عليه وغير مكتوب. لكنّ تهميشها على الشاشة، كما تقول باقري، ساعد ـ على نحو ربما يبدو متناقضاً ـ في خلق ضرورة توجّه النساء خلف الكاميرا. موقف الخميني عامل رئيسي، فهو لم ينكر السينما كفنّ، مؤكّداً منذ بداية الثورة أنّه ليس ضدها أو ضد التلفزيون، بل ضد جوانب غير أخلاقية ("فحشاء" بالفارسية) وإمبريالية فيها. مفهوم "العفّة" هذا، الذي بات يميّز السينما الإيرانية، "حرّر جزءاً من المجتمع الإيراني المحافظ والمتديّن، الذي لم يكن يثق بالنظام قبل الثورة"، وخفّف من حذر العائلات المحافظة تجاه السينما، التي لم تعد مرتبطة في أذهانها بالتفسّخ، كما أيام الشاه، بل باتت فضاءً تستطيع النساء عبره التعبير عن أنفسهنّ. ثمّ اندلعت الحرب العراقية الإيرانية (1980 ـ 1988)، فـ"دعمت" هذا التوجّه، مع التحاق رجال كثيرين بالجبهة، تاركين النساء وحيدات، ما ساهم ببناء شعور بالاستقلالية لديهنّ.
اقــرأ أيضاً
ثمّ بدأ التحوّل التدريجي.
يعتبر نقّاد وباحثون في السينما الإيرانية أنّ "باشو" (1985)، لبهرام بيضائي (1938)، أول مساهم في تطوير دور المرأة في سينما ما بعد الثورة. فيلم عن الحرب والعنصرية، يروي قصّة صبيّ صغير فَقَد والديه في قصف منطقته في جنوب إيران، فهرب ووجد نفسه في شمال البلد، الأخضر والهادئ، وأمام امرأة ذات بشرة فاتحة (نسرين تسليمي). ببنائه شخصية نسائية على قدر كبير من القوّة والسحر والجمال، وباستخدامه لقطة مقرّبة تُظهر نظرة عينيّ بطلته الثاقبة والساحرة، حقّق بيضائي "مشهداً غدا رمزياً في السينما الإيرانية".
إذا كان بيضائي أول من قدّم المرأة في شخصية بعيدة عن الأدوار التقليدية والمحافظة، التي بدأتها بعد الثورة، فإنّ رخشان بني اعتماد (1954)، بنظرتها العميقة والحادّة، كشفت شرط المرأة في إيران، بوصفها المجتمع الإيراني، وبتناولها إياه من زوايا عدّة. ومع بوران درخشنده، ستكونان أول مخرجتين إيرانيتين تظهران بعد الثورة.
هل هناك رؤية نسوية لإيران بعد الثورة، تُترجمها السينما الإيرانية التي تصنعها النساء؟
رخشان بني اعتماد مولودة في طهران. درست الفنون الدرامية، وأنجزت 20 فيلماً وثائقياً. أوّل روائي لها أنجزته عام 1987، أتبعته بـ10 أفلام، أحدثها "قصص". نالت جوائز عدّة في مهرجانات دولية مختلفة. أفلامها الوثائقية والروائية من أكثر الأفلام تعبيراً عن مجتمعها وواقعه، ولعلّها من الأقسى، فهي غير مُحرَجةٍ بالغوص بحساسية فريدة في أعماق المجتمع الإيراني، وتعريته. هي من المخرجات الأكثر حضوراً وتأثيراً في السينما الإيرانية، وأوّل امرأة تكافأ بجائزة الإخراج في "مهرجان فجر الإيراني" (1991)، عن "نرجس"، المُدهش بجرأته في تناول علاقة بين لص شاب وعشيقته الأكبر سنّاً منه، وامرأة شابّة تصبح زوجته الثانية.
أعادت بني اعتماد نجاح فيلمها هذا، الذي رآه نقّاد أهمّ أعمالها، إلى وقت عرضه: "ظهر بعد الثورة، في فترة كان الحديث فيها عن الحبّ غير مُتدَاول، أو بالأحرى ليس على النحو الذي أبديته". تناولت قضايا المرأة برؤية جديدة، وشخصياتها الرئيسية نسائية، كما في "نرجس"، و"الوشاح الأزرق" (1995)، الذي يطرح العلاقة بين عاملة فقيرة وصاحب مزرعة أرمل، و"تحت جلد المدينة" (2000)، عن امرأة فقيرة تعمل في مصنع وتكافح من أجل أسرتها. هكذا رصدت المخرجة مجتمعها بعين ثاقبة، ولم تُقصرْ اهتمامها على مشاكل تتعرّض لها النساء. اهتمّت بالطبقات كلّها، لا سيما المُعدمة منها، وأبرزت القضايا الاجتماعية والاقتصادية التي يعانيها المجتمع، مع الإشارة إلى تناولها مواضيع محرّمة، ككون المرأة إنساناً قبل أنْ تكون أمّاً. ولأنها امرأة، فهي تفهم هذا الكائن بشكلٍ أفضل: "أرفض هذه النظرة النسوية تجاه المجتمع، كما أرفض في المقابل النظرة الذكورية. كلّ إنسان يتكوّن من مكوّنات عدّة، بعضها مرتبط بجنسه، لكن مجموعها يُشكّل الإنسان". بالتالي، لا تميل بني اعتماد إلى التمييز النسائي في المجال المهني، ولا تصف سينماها بالنسوية: "لا أفضل هذا التقسيم، والقول بوجود سينما نسوية منفصلة عن السينما الأخرى. فالقضايا تتشابه في الأمكنة كلّها، وتتعرّض لها المرأة والرجل على حدّ سواء".
في هذا، لا تشبه مواطنتها تهمينة ميلاني.
بداية تسعينيات القرن الـ20، كانت الفترة الذهبية للسينما الإيرانية. من سمات هذا العقد، انفتاح فضاء الفنّ السابع أمام مخرجات، اهتممن بالقضايا الاجتماعية وأحوال المرأة من وجهة نظر نسوية بحتة، كما فعلت تهمينة ميلاني (1960)، التي كانت، لعقد ونصف العقد، المخرجة الإيرانية الأنجح والأشهر في بلدها وخارجه، وأفلامها تتمحور حول المرأة وحقوقها وشرطها الاجتماعي، وتتلقّى إقبالاً جماهيرياً كبيراً في إيران. اهتمت ميلاني بالشرط النسوي، وبظلم القوانين والمجتمع للمرأة ("أولاد الطلاق"، 1989)، وبعدم تحكّم المرأة في مصيرها في المجتمع الأبوي ("امرأتان"، 1999)، وخضوع الأم للقوانين والعادات المجحفة في ما يتعلق بالحضانة ("الفعل الخامس"، 2003)، والحكم على إنسان من دون الاستماع إلى وجهة نظره ("النصف المخفي"، 2001). بسبب هذا الأخير، واجهت مشاكل مع السلطة، بعد اتّهام المحكمة لها بمساندة الثورة المضادة، فسُجِنت أسبوعين، قبل إطلاق سراحها بتدخّل من الرئيس محمد خاتمي، ونداءات تضامن محلية ودولية.
طرحت ميلاني أيضاً مشاكل الزواج المعاصر، ومحافظة الرجل على عقليته التقليدية رغم حداثته الظاهرة ("وقف النار" عام 2006، و"وقف النار 2" عام 2014)، والعنف الزوجي الذي تكشفه محامية نسوية مطلقة ("مسار غير مُتّبع"، 2017). في معظم أفلامها، تلجأ إلى أسلوب المبالغة في وصف الحدث كوسيلة للتحريض ولفت الانتباه إلى معاناة بني جنسها.
في هذه الفترة، ظهرت منيجة حكمت، مخرجة "سجن النساء" (2000)، الذي اعتُبر صورة مصغّرة عن المجتمع الإيراني. وبدأت أسرة محسن مخملباف بالظهور، مع "التفاحة" (1998) لسميرة مخملباف، ابنة الأعوام الـ18 حينها. يقول حميد دباشي، الذي شاهد الفيلم في مهرجان "كانّ"، إنّه "رأى كيف تغيّرت نظرة العالم إلى إيران بين عشية وضحاها، من أيقونة الرجل الملتحي الغاضب (يقصد الخميني)، إلى وجهٍ باسم ولطيف لمخرجةٍ شابة". اعتبر دباشي أنّها كانت لحظة تحوّل فارقة في الاستقبال العالمي للسينما الإيرانية، ولإيران نفسها. تتابعت أفلام سميرة مع "السبورة" (2000)، و"الخامسة بعد الظهر" (2003)، ثم ظهر "اليوم الذي أصبحت فيه امرأة" (2000)، لمرضية ميشكيني، الزوجة الثانية لمخملباف.
سينما المخرجات تلك لم تسلم مما أصاب السينما الإيرانية من تزايد القيود والرقابة، بين عامي 2005 و2013. حينها، بدأ السينمائيون تحقيق الأفلام من دون الحصول على تصاريح تخوّلهم التصوير، والسينمائيات أيضاً، وأشهرهنّ مانيا أكبري (1974)، بطلة "تن" (2002) لعباس كيارستمي. متمرّدة ومتعدّدة المواهب، تقول أكبري عن أسباب تفضيلها الوقوف خلف الكاميرا لا أمامها: "لا أحبّ أنْ يقودني مخرج آخر، أو أي إنسان حتى. مع كيارستمي يختلف الوضع، لأنّه مخرج ذكي أدرك، منذ البداية، أنّه ليس بمقدوره إدارتي، وأنّ عليه ألّا يكون هنا". في فيلمها الأشهر "تن + 4"، تتعاقب المَشاهد في سيارة تقودها امرأة شابة (أكبري)، ويتوالى العابرون فيها: ابن وأخت وصديقة، أو مجرّد عابرة. تدور الأحاديث بينهم، وتُسرد الحكايات الأليمة والسارة. عُرض الفيلم في دول عدّة، لم تكن إيران بينها.
من الجيل نفسه، هناك ناهد حسن زاده (1974). استوحت أحداث ما بعد انتخابات الرئاسة الإيرانية لتحقيق "وقت آخر" (2016)، الذي يكشف معاناة فتاة متمرّدة على التقاليد، جريئة ومقاومة، تطالب بحقوقها في ظلّ تشريعات قاسية ومحيط اجتماعي تقليدي: "إنّها تعبير عن النساء الإيرانيات اللواتي يردن نيل حقوقهنّ، لكن بشكل قانوني وشرعي". القصّة اجتماعية، متأتية من رغبة المخرجة في تحقيق فيلم وثائقي يتناول المظاهرات التي أعقبت إعادة انتخاب الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد (2009)، لتقول إنّ "الحركة الخضراء"، المؤيّدة للمرشّح مير حسين موسوي، الذي خسر الانتخابات الرئاسية، حركةٌ نسائية. لكنها لم تستطع إنجازه: "شهدنا أثناءها كيف شاركت النساء في تظاهرات في الشارع للمطالبة بحقوقهن". الشخصية الرئيسية في الفيلم تعبير عن هذه الحركة النسائية والتمرّد، بمطالبتها بحقوقها، لكنّ ليس بأسلوب فجّ، وتريد التغيير بشجاعة، والحصول على حقوقها بطريقة صحيحة. تحبل بطفلٍ غير شرعي، لكنها لا تهرب مع جنينها، بل تبقى في هذه المشاكل كلّها، وتقاوم بكلّ قوّة وتصميم.
تهتمّ السينمائيات الإيرانيات بشرط المرأة، وتسلّطن الضوء على أحوالها. لكنّ هذا لا يعني، بالنسبة إلى معظمهنّ، أنهنّ نسويات. تقول إيدا بناهنده (1979)، في حواراتها مع الصحافة الفرنسية بعد عرض "ناهد" في قسم "نظرة ما" في مهرجان "كانّ" (2015)، إنّ النساء في إيران يُعاملن باحترام كبير، على عكس ما يظنّه الأوروبيون، وإنّ هناك اهتماماً خاصاً بهنّ في السينما، فقلّة منهنّ تعمل فيها، مقارنة بالرجال. المرأة مهمّة كـ"واجهة"، والمنتجون أكثر اهتماماً بعملها. هذا لا يمنع وجود تمييز تجاههنّ، كما يحصل في العالم. ليس"ناهد" فيلماً ملتزماً، مصنوعاً للتعبير عن المرأة الإيرانية، بل عن "امرأة" إيرانية، في وضع معيّن، كما قالت بناهنده: "أنْ تكوني امرأة في إيران ليس أمراً صعباً". ذلك لا يمنع أنهنّ بحاجة، أحياناً، إلى نضال مضاعف لتحقيق وجودهنّ، وللتحايل على قوانين مجحفة. ناهد امرأة مُطلقة من زوج محبّ، لكنّه مدمن على المخدرات، ومنشغل بالحصول على المال بطرق غير مستقيمة. يقبل باحتفاظها بولدهما، الذي يقترب من سنّ المراهقة، شرط ألّا تتزوّج. القانون يشترط هذا، فتلتزم الشابة لفترة، قبل أنْ تُغرم برجلٍ متّزن ووسيم وثري.
إيدا بناهنده حسّاسة دائماً لشرط المرأة، وتغيير وجهة نظر الجمهور في ما يتعلق بحقوقها، عبر أفلامها الوثائقية. بعدها، أخرجت "إسرافيل" (2017)، عن عودة العلاقات بين مطلقين بعد موت ابنهما في حادث سيارة. ولها في اليابان "سقوط نيكايدو" (2019).
هناك مخرجة إيرانية تحتلّ مكانة بارزة اليوم، لفتت الأنظار إليها محلياً ودولياً منذ عام 2014: نرجس آبيار، أول مخرجة إيرانية يُرشّح فيلمها "نَفَسْ" (2015)، لتمثيل بلدها في جائزة أفضل فيلم أجنبي في "أوسكار". إنّها من بين عدد قليل من صانعات الأفلام الإيرانيات اللواتي فُزن بـ"جائزة سيمورغ (العنقاء)" في الإخراج، من "مهرجان فجر الوطني"، وبجوائز عدّة، قياساً بالعدد القليل لأفلامها. مولودة في "يزد" عام 1970، مؤلّفة ومخرجة سينمائية وكاتبة سيناريو. درست الأدب الفارسي، وتكتب للأطفال واليافعين، وقصصاً قصيرة وروايات. أول إخراج لها بعنوان "الأشياء في المرآة أقرب ممّا تظهر عليه" (2005)، ألحقته بـ10 أفلام قصيرة ووثائقية، و3 طويلة.
عام 2014، أنجزت فيلماً روائياً ثانياً بعنوان "الخندق 143"، مقتبسة إياها من قصّة لها عرفت نجاحاً كبيراً. فيلمها الأخير، "حين اكتمل القمر" (2019)، فاز بـ6 "جوائز سيمورغ " في "مهرجان فجر الوطني" (فبراير/ شباط 2019، منها أفضل فيلم وأفضل إخراج). في أفلامها، تتحدّث نرجس آبيار عن المرأة، من وجهة نظر مغايرة لزميلاتها. تولي اهتماماً خاصاً بالحرب العراقية الإيرانية وبالحرب على الإرهاب، بنظرة تتناول تأثير الحروب على المرأة والطفولة، وأوجاع الفَقد وآلام الانتظار. قصّة "الخندق 143" مؤثّرة: أمّ تنتظر عودة ابنها من الحرب. "نَفس" يتناول الحرب نفسها، لكن عبر أحلام 4 أطفال يعيشون في الريف مع والدهم وجدّتهم. اهتمامها بالحرب على الإرهاب نابعٌ من رغبتها في تبيان أثرها المدمّر على شابّة وأمّ لا حيلة لهما.
لا يتوقف "سيل" المخرجات في إيران. فالثورة، مع تعقيداتها، حرّرت المرأة. تقول عسل باقري، وهي "تزن كلماتها جيدا"، كما تشدّد: "النساء والرجال قاموا بالثورة، والسينما انعكاسٌ وتعبيرٌ عن هذا المجتمع. حتى لو اعتبرت القوانين الإيرانية المرأةَ درجة ثانية، فإن النساء ـ بمطالبتهن بحقوقهن وازدياد أعدادهن في الأماكن كلّها (كالجامعات مثلاً، إذْ تبلغ نسبة وجودهنّ فيها 60 بالمئة) ـ غزون الفضاء العام، والسينما جزء من هذا الفضاء غير منفصلة عنه".
(تمّ الاعتماد على بعض المراجع في كتابة هذا التحقيق، أبرزها: حوار خاص مع عسل باقري أجري في باريس في يوليو/ تموز 2019، وحوارات متفرّقة مع بعض المخرجات، و"سياسة السينما الإيرانية" لأنياس دوفيكتور (بالفرنسية)، منشورات CNRS، و"السينما الإيرانية الراهنة" لندى الأزهري (دار المدى، 2012)، ومحاضرات لحميد باشي ألقاها في جامعة كولومبيا، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2018، وغيرها).
في بداية الثورة، بات الوضع مُعقّداً. لم يعد هناك سوى عدد محدود من النساء أمام الكاميرا وخلفها. كانت المرأة ديكوراً، لا لقطات مقرّبة لها ولا أدوار ورعة. كان هذا متعارف عليه وغير مكتوب. لكنّ تهميشها على الشاشة، كما تقول باقري، ساعد ـ على نحو ربما يبدو متناقضاً ـ في خلق ضرورة توجّه النساء خلف الكاميرا. موقف الخميني عامل رئيسي، فهو لم ينكر السينما كفنّ، مؤكّداً منذ بداية الثورة أنّه ليس ضدها أو ضد التلفزيون، بل ضد جوانب غير أخلاقية ("فحشاء" بالفارسية) وإمبريالية فيها. مفهوم "العفّة" هذا، الذي بات يميّز السينما الإيرانية، "حرّر جزءاً من المجتمع الإيراني المحافظ والمتديّن، الذي لم يكن يثق بالنظام قبل الثورة"، وخفّف من حذر العائلات المحافظة تجاه السينما، التي لم تعد مرتبطة في أذهانها بالتفسّخ، كما أيام الشاه، بل باتت فضاءً تستطيع النساء عبره التعبير عن أنفسهنّ. ثمّ اندلعت الحرب العراقية الإيرانية (1980 ـ 1988)، فـ"دعمت" هذا التوجّه، مع التحاق رجال كثيرين بالجبهة، تاركين النساء وحيدات، ما ساهم ببناء شعور بالاستقلالية لديهنّ.
ثمّ بدأ التحوّل التدريجي.
يعتبر نقّاد وباحثون في السينما الإيرانية أنّ "باشو" (1985)، لبهرام بيضائي (1938)، أول مساهم في تطوير دور المرأة في سينما ما بعد الثورة. فيلم عن الحرب والعنصرية، يروي قصّة صبيّ صغير فَقَد والديه في قصف منطقته في جنوب إيران، فهرب ووجد نفسه في شمال البلد، الأخضر والهادئ، وأمام امرأة ذات بشرة فاتحة (نسرين تسليمي). ببنائه شخصية نسائية على قدر كبير من القوّة والسحر والجمال، وباستخدامه لقطة مقرّبة تُظهر نظرة عينيّ بطلته الثاقبة والساحرة، حقّق بيضائي "مشهداً غدا رمزياً في السينما الإيرانية".
إذا كان بيضائي أول من قدّم المرأة في شخصية بعيدة عن الأدوار التقليدية والمحافظة، التي بدأتها بعد الثورة، فإنّ رخشان بني اعتماد (1954)، بنظرتها العميقة والحادّة، كشفت شرط المرأة في إيران، بوصفها المجتمع الإيراني، وبتناولها إياه من زوايا عدّة. ومع بوران درخشنده، ستكونان أول مخرجتين إيرانيتين تظهران بعد الثورة.
هل هناك رؤية نسوية لإيران بعد الثورة، تُترجمها السينما الإيرانية التي تصنعها النساء؟
رخشان بني اعتماد مولودة في طهران. درست الفنون الدرامية، وأنجزت 20 فيلماً وثائقياً. أوّل روائي لها أنجزته عام 1987، أتبعته بـ10 أفلام، أحدثها "قصص". نالت جوائز عدّة في مهرجانات دولية مختلفة. أفلامها الوثائقية والروائية من أكثر الأفلام تعبيراً عن مجتمعها وواقعه، ولعلّها من الأقسى، فهي غير مُحرَجةٍ بالغوص بحساسية فريدة في أعماق المجتمع الإيراني، وتعريته. هي من المخرجات الأكثر حضوراً وتأثيراً في السينما الإيرانية، وأوّل امرأة تكافأ بجائزة الإخراج في "مهرجان فجر الإيراني" (1991)، عن "نرجس"، المُدهش بجرأته في تناول علاقة بين لص شاب وعشيقته الأكبر سنّاً منه، وامرأة شابّة تصبح زوجته الثانية.
أعادت بني اعتماد نجاح فيلمها هذا، الذي رآه نقّاد أهمّ أعمالها، إلى وقت عرضه: "ظهر بعد الثورة، في فترة كان الحديث فيها عن الحبّ غير مُتدَاول، أو بالأحرى ليس على النحو الذي أبديته". تناولت قضايا المرأة برؤية جديدة، وشخصياتها الرئيسية نسائية، كما في "نرجس"، و"الوشاح الأزرق" (1995)، الذي يطرح العلاقة بين عاملة فقيرة وصاحب مزرعة أرمل، و"تحت جلد المدينة" (2000)، عن امرأة فقيرة تعمل في مصنع وتكافح من أجل أسرتها. هكذا رصدت المخرجة مجتمعها بعين ثاقبة، ولم تُقصرْ اهتمامها على مشاكل تتعرّض لها النساء. اهتمّت بالطبقات كلّها، لا سيما المُعدمة منها، وأبرزت القضايا الاجتماعية والاقتصادية التي يعانيها المجتمع، مع الإشارة إلى تناولها مواضيع محرّمة، ككون المرأة إنساناً قبل أنْ تكون أمّاً. ولأنها امرأة، فهي تفهم هذا الكائن بشكلٍ أفضل: "أرفض هذه النظرة النسوية تجاه المجتمع، كما أرفض في المقابل النظرة الذكورية. كلّ إنسان يتكوّن من مكوّنات عدّة، بعضها مرتبط بجنسه، لكن مجموعها يُشكّل الإنسان". بالتالي، لا تميل بني اعتماد إلى التمييز النسائي في المجال المهني، ولا تصف سينماها بالنسوية: "لا أفضل هذا التقسيم، والقول بوجود سينما نسوية منفصلة عن السينما الأخرى. فالقضايا تتشابه في الأمكنة كلّها، وتتعرّض لها المرأة والرجل على حدّ سواء".
في هذا، لا تشبه مواطنتها تهمينة ميلاني.
بداية تسعينيات القرن الـ20، كانت الفترة الذهبية للسينما الإيرانية. من سمات هذا العقد، انفتاح فضاء الفنّ السابع أمام مخرجات، اهتممن بالقضايا الاجتماعية وأحوال المرأة من وجهة نظر نسوية بحتة، كما فعلت تهمينة ميلاني (1960)، التي كانت، لعقد ونصف العقد، المخرجة الإيرانية الأنجح والأشهر في بلدها وخارجه، وأفلامها تتمحور حول المرأة وحقوقها وشرطها الاجتماعي، وتتلقّى إقبالاً جماهيرياً كبيراً في إيران. اهتمت ميلاني بالشرط النسوي، وبظلم القوانين والمجتمع للمرأة ("أولاد الطلاق"، 1989)، وبعدم تحكّم المرأة في مصيرها في المجتمع الأبوي ("امرأتان"، 1999)، وخضوع الأم للقوانين والعادات المجحفة في ما يتعلق بالحضانة ("الفعل الخامس"، 2003)، والحكم على إنسان من دون الاستماع إلى وجهة نظره ("النصف المخفي"، 2001). بسبب هذا الأخير، واجهت مشاكل مع السلطة، بعد اتّهام المحكمة لها بمساندة الثورة المضادة، فسُجِنت أسبوعين، قبل إطلاق سراحها بتدخّل من الرئيس محمد خاتمي، ونداءات تضامن محلية ودولية.
طرحت ميلاني أيضاً مشاكل الزواج المعاصر، ومحافظة الرجل على عقليته التقليدية رغم حداثته الظاهرة ("وقف النار" عام 2006، و"وقف النار 2" عام 2014)، والعنف الزوجي الذي تكشفه محامية نسوية مطلقة ("مسار غير مُتّبع"، 2017). في معظم أفلامها، تلجأ إلى أسلوب المبالغة في وصف الحدث كوسيلة للتحريض ولفت الانتباه إلى معاناة بني جنسها.
في هذه الفترة، ظهرت منيجة حكمت، مخرجة "سجن النساء" (2000)، الذي اعتُبر صورة مصغّرة عن المجتمع الإيراني. وبدأت أسرة محسن مخملباف بالظهور، مع "التفاحة" (1998) لسميرة مخملباف، ابنة الأعوام الـ18 حينها. يقول حميد دباشي، الذي شاهد الفيلم في مهرجان "كانّ"، إنّه "رأى كيف تغيّرت نظرة العالم إلى إيران بين عشية وضحاها، من أيقونة الرجل الملتحي الغاضب (يقصد الخميني)، إلى وجهٍ باسم ولطيف لمخرجةٍ شابة". اعتبر دباشي أنّها كانت لحظة تحوّل فارقة في الاستقبال العالمي للسينما الإيرانية، ولإيران نفسها. تتابعت أفلام سميرة مع "السبورة" (2000)، و"الخامسة بعد الظهر" (2003)، ثم ظهر "اليوم الذي أصبحت فيه امرأة" (2000)، لمرضية ميشكيني، الزوجة الثانية لمخملباف.
سينما المخرجات تلك لم تسلم مما أصاب السينما الإيرانية من تزايد القيود والرقابة، بين عامي 2005 و2013. حينها، بدأ السينمائيون تحقيق الأفلام من دون الحصول على تصاريح تخوّلهم التصوير، والسينمائيات أيضاً، وأشهرهنّ مانيا أكبري (1974)، بطلة "تن" (2002) لعباس كيارستمي. متمرّدة ومتعدّدة المواهب، تقول أكبري عن أسباب تفضيلها الوقوف خلف الكاميرا لا أمامها: "لا أحبّ أنْ يقودني مخرج آخر، أو أي إنسان حتى. مع كيارستمي يختلف الوضع، لأنّه مخرج ذكي أدرك، منذ البداية، أنّه ليس بمقدوره إدارتي، وأنّ عليه ألّا يكون هنا". في فيلمها الأشهر "تن + 4"، تتعاقب المَشاهد في سيارة تقودها امرأة شابة (أكبري)، ويتوالى العابرون فيها: ابن وأخت وصديقة، أو مجرّد عابرة. تدور الأحاديث بينهم، وتُسرد الحكايات الأليمة والسارة. عُرض الفيلم في دول عدّة، لم تكن إيران بينها.
من الجيل نفسه، هناك ناهد حسن زاده (1974). استوحت أحداث ما بعد انتخابات الرئاسة الإيرانية لتحقيق "وقت آخر" (2016)، الذي يكشف معاناة فتاة متمرّدة على التقاليد، جريئة ومقاومة، تطالب بحقوقها في ظلّ تشريعات قاسية ومحيط اجتماعي تقليدي: "إنّها تعبير عن النساء الإيرانيات اللواتي يردن نيل حقوقهنّ، لكن بشكل قانوني وشرعي". القصّة اجتماعية، متأتية من رغبة المخرجة في تحقيق فيلم وثائقي يتناول المظاهرات التي أعقبت إعادة انتخاب الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد (2009)، لتقول إنّ "الحركة الخضراء"، المؤيّدة للمرشّح مير حسين موسوي، الذي خسر الانتخابات الرئاسية، حركةٌ نسائية. لكنها لم تستطع إنجازه: "شهدنا أثناءها كيف شاركت النساء في تظاهرات في الشارع للمطالبة بحقوقهن". الشخصية الرئيسية في الفيلم تعبير عن هذه الحركة النسائية والتمرّد، بمطالبتها بحقوقها، لكنّ ليس بأسلوب فجّ، وتريد التغيير بشجاعة، والحصول على حقوقها بطريقة صحيحة. تحبل بطفلٍ غير شرعي، لكنها لا تهرب مع جنينها، بل تبقى في هذه المشاكل كلّها، وتقاوم بكلّ قوّة وتصميم.
تهتمّ السينمائيات الإيرانيات بشرط المرأة، وتسلّطن الضوء على أحوالها. لكنّ هذا لا يعني، بالنسبة إلى معظمهنّ، أنهنّ نسويات. تقول إيدا بناهنده (1979)، في حواراتها مع الصحافة الفرنسية بعد عرض "ناهد" في قسم "نظرة ما" في مهرجان "كانّ" (2015)، إنّ النساء في إيران يُعاملن باحترام كبير، على عكس ما يظنّه الأوروبيون، وإنّ هناك اهتماماً خاصاً بهنّ في السينما، فقلّة منهنّ تعمل فيها، مقارنة بالرجال. المرأة مهمّة كـ"واجهة"، والمنتجون أكثر اهتماماً بعملها. هذا لا يمنع وجود تمييز تجاههنّ، كما يحصل في العالم. ليس"ناهد" فيلماً ملتزماً، مصنوعاً للتعبير عن المرأة الإيرانية، بل عن "امرأة" إيرانية، في وضع معيّن، كما قالت بناهنده: "أنْ تكوني امرأة في إيران ليس أمراً صعباً". ذلك لا يمنع أنهنّ بحاجة، أحياناً، إلى نضال مضاعف لتحقيق وجودهنّ، وللتحايل على قوانين مجحفة. ناهد امرأة مُطلقة من زوج محبّ، لكنّه مدمن على المخدرات، ومنشغل بالحصول على المال بطرق غير مستقيمة. يقبل باحتفاظها بولدهما، الذي يقترب من سنّ المراهقة، شرط ألّا تتزوّج. القانون يشترط هذا، فتلتزم الشابة لفترة، قبل أنْ تُغرم برجلٍ متّزن ووسيم وثري.
إيدا بناهنده حسّاسة دائماً لشرط المرأة، وتغيير وجهة نظر الجمهور في ما يتعلق بحقوقها، عبر أفلامها الوثائقية. بعدها، أخرجت "إسرافيل" (2017)، عن عودة العلاقات بين مطلقين بعد موت ابنهما في حادث سيارة. ولها في اليابان "سقوط نيكايدو" (2019).
هناك مخرجة إيرانية تحتلّ مكانة بارزة اليوم، لفتت الأنظار إليها محلياً ودولياً منذ عام 2014: نرجس آبيار، أول مخرجة إيرانية يُرشّح فيلمها "نَفَسْ" (2015)، لتمثيل بلدها في جائزة أفضل فيلم أجنبي في "أوسكار". إنّها من بين عدد قليل من صانعات الأفلام الإيرانيات اللواتي فُزن بـ"جائزة سيمورغ (العنقاء)" في الإخراج، من "مهرجان فجر الوطني"، وبجوائز عدّة، قياساً بالعدد القليل لأفلامها. مولودة في "يزد" عام 1970، مؤلّفة ومخرجة سينمائية وكاتبة سيناريو. درست الأدب الفارسي، وتكتب للأطفال واليافعين، وقصصاً قصيرة وروايات. أول إخراج لها بعنوان "الأشياء في المرآة أقرب ممّا تظهر عليه" (2005)، ألحقته بـ10 أفلام قصيرة ووثائقية، و3 طويلة.
عام 2014، أنجزت فيلماً روائياً ثانياً بعنوان "الخندق 143"، مقتبسة إياها من قصّة لها عرفت نجاحاً كبيراً. فيلمها الأخير، "حين اكتمل القمر" (2019)، فاز بـ6 "جوائز سيمورغ " في "مهرجان فجر الوطني" (فبراير/ شباط 2019، منها أفضل فيلم وأفضل إخراج). في أفلامها، تتحدّث نرجس آبيار عن المرأة، من وجهة نظر مغايرة لزميلاتها. تولي اهتماماً خاصاً بالحرب العراقية الإيرانية وبالحرب على الإرهاب، بنظرة تتناول تأثير الحروب على المرأة والطفولة، وأوجاع الفَقد وآلام الانتظار. قصّة "الخندق 143" مؤثّرة: أمّ تنتظر عودة ابنها من الحرب. "نَفس" يتناول الحرب نفسها، لكن عبر أحلام 4 أطفال يعيشون في الريف مع والدهم وجدّتهم. اهتمامها بالحرب على الإرهاب نابعٌ من رغبتها في تبيان أثرها المدمّر على شابّة وأمّ لا حيلة لهما.
لا يتوقف "سيل" المخرجات في إيران. فالثورة، مع تعقيداتها، حرّرت المرأة. تقول عسل باقري، وهي "تزن كلماتها جيدا"، كما تشدّد: "النساء والرجال قاموا بالثورة، والسينما انعكاسٌ وتعبيرٌ عن هذا المجتمع. حتى لو اعتبرت القوانين الإيرانية المرأةَ درجة ثانية، فإن النساء ـ بمطالبتهن بحقوقهن وازدياد أعدادهن في الأماكن كلّها (كالجامعات مثلاً، إذْ تبلغ نسبة وجودهنّ فيها 60 بالمئة) ـ غزون الفضاء العام، والسينما جزء من هذا الفضاء غير منفصلة عنه".
(تمّ الاعتماد على بعض المراجع في كتابة هذا التحقيق، أبرزها: حوار خاص مع عسل باقري أجري في باريس في يوليو/ تموز 2019، وحوارات متفرّقة مع بعض المخرجات، و"سياسة السينما الإيرانية" لأنياس دوفيكتور (بالفرنسية)، منشورات CNRS، و"السينما الإيرانية الراهنة" لندى الأزهري (دار المدى، 2012)، ومحاضرات لحميد باشي ألقاها في جامعة كولومبيا، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2018، وغيرها).