وفعلاً، هذا ما عمل عليه في كثير من مؤلفاته للموسيقى الآلية، سواء في استيعاب عناصر الموسيقى الكلاسيكية في كونشرتو للعود، قدمه بمصاحبة الأوركسترا في لبنان، وأيضاً في "تصور رباعي للوتريات"، أو في إدماجها بموسيقى الجاز.
ولد سيمون شاهين في قرية ترشيحا الفلسطينية، لأسرة موسيقية أباً عن جد، ساهمت في تشكيل وعيه الموسيقي وذائقته. فمنذ الثالثة من عمره، تعلّم العزف على العود، وفي أول ظهور له على المسرح، بالخامسة من عمره، بالكاد يظهر وجهه ممسكاً بآلة حجمها أكبر منه. هذا الحضور المبكر، ساهم في بناء كاريزميته على المسرح. وأضاف إلى العود آلة الكمان ليعزف عليها بنفس المهارة، وظل طيلة حياته يدمج تلك الثنائية، سواء كعازف، أو مؤلّف رؤيوي.
ستظل الثنائية مسيطرة عليه في الموسيقى، سواء في إضافة آلة أخرى تعلمها بنفس المهارة، أي الكمان، أو في مزج الموسيقى العربية بأصالتها مع عناصر موسيقية غربية وشرقية. غير أن ملكة شاهين الموسيقية، أضفت صورة جمالية نادرة، قليلون من العرب ابتكروا فيها، محافظاً على المسار الموسيقي الأصيل، الذي شرذمته متطلبات السوق الشعبوية.
في كونشرتو العود، العمل الذي قدمه في لبنان بقيادة الراحل وليد غُلمية، من مقام المينور، تبدأ الأوركسترا عزفاً سيمفونياً، وتتضح من اللحظة الأولى عملية الدمج بين العناصر الشرقية والغربية، إذ ظلت الثيمات الموسيقية تتطور بصيغة رومانتيكية، لكنه في هذا الحوار الموسيقي بين العزف المنفرد والعزف الجماعي، وأيضاً بين شرق وغرب، وفي تلك المساحة التي يشغلها العود منفرداً أو بمصاحبة الأوركسترا، يريد شاهين إثبات قيمة آلة العود التي أرادت الحداثة تهميشها.
حافظ شاهين على النسق الموسيقي وزاوج في التركيبات اللحنية الشرقية بأبعادها، وأيضاً عمل على إعطاء هذا المجال حيوية من دون أن يستفيض في الانفعال، حتى في خروجه إلى مسحة شرقية خالصة، عبر توظيف الإيقاعات ثم تنويعها في مجالات لحنية مختلفة، مع المحافظة على الوحدة اللحنية.
لا ننسى لمحة تأثره بفريد الأطرش، سواء في التلاعب بالعود، وأيضاً في بعض اللمحات الموسيقية ذات الطابع الغربي. بصورة مختصرة، يمكن النظر إلى سيمون شاهين في أعماله كواحد من الأساتذة البارزين في الموسيقى العربية، وامتداد لموسيقيين ظلوا منشغلين بتطور الموسيقى العربية متشبعين بمعرفة عميقة بها.
هذا مثال بارز، يؤكد فيه أيضاً قيمة الزخرف الذي كادت الحداثة أن تهمشه، متتبعين النسق الغربي؛ فالزخرف ظل حاضراً في الموسيقى الغربية، خصوصاً في عصر الباروك، وجزءاً من الكلاسيكية.
في كونشترو العود، تظهر أيضاً قيمة التقاسيم والارتجال، ثم يحضر الفالس بعد عزف منفرد على العود، مرتجلاً بتقسيمات لم تشذ عن الطقس اللحني العام. كما لو أن شاهين يريد التأكيد أن الموسيقى العربية مرنة وقادرة على استنطاق المجالات الموسيقية المختلفة.
ظل شاهين يحرص على تقديمه مفاهيم الموسيقى العربية، مركزاً على فلسفتها الجمالية، وتحديداً في أبعادها الأكثر تعقيداً. فهو يؤكد أن لديها ثراء صوتياً أوسع، أي عبر تقسيم أبعادها الصوتية إلى 24، مقارنة بأبعاد الموسيقى الغربية (12).
ربما كان هذا الرأي جزءاً من تحيز شاهين إلى الموسيقى العربية، فهو منذ أن انتقل عام 1980 إلى الولايات المتحدة، ظل مخلصاً لجذوره الموسيقية. وتحديداً لتلك الفكرة التي يرددها طويلاً، بأن كل تطور هو حركة داخل التراث، ونابعة منه إلى آفاق أخرى.
في واحدة من محاضراته عن الموسيقى العربية، في أميركا، وبأسلوبه الطريف على المسرح، قدم الكثير من القيم الجمالية الشرقية، بما فيها المفارقة في وجود ربع التون، معتداً بجذوره الموسيقية؛ فالمسألة ليست إخلاصاً للهوية الثقافية، بل لجمالية موسيقية. ففي لمحة شديدة الذكاء، أراد إعادة الاعتبار إلى وجود الزخرف الذي تخلى عنه الغرب، موسيقياً، لمصلحة التقدم الموسيقي، ليبين أيضاً كثيراً من الفوارق الجوهرية بين الموسيقى العربية ومثيلتها في الغرب. وكذلك تخلص منه الملحنون العرب ضمن مجاراتهم الحداثة الغربية.
وبلمسة على الكمان لا تقل عن براعته في العزف على العود، أكد قيمة الزخرف في إضفاء جمالية على اللحن، بمقارنة في العزف من دون زخرف، ثم عزف اللحن بلمسات زخرفية؛ إذ يؤكد أنه ملحن إحيائي في الموسيقى العربية التي تخلت عن كثير من جماليات موروثها.
خلال الثمانينيات، عادت ملامح الإحيائية في صيغتها الدينية عربياً، لكنها بالنسبة لصاحب "اللهب الأزرق"، كانت عملية إحياء جمالية. تأتي ملامح عمقها عبر حضور التزاوج البعيد، فهو من ناحية يؤنسن الصوت الموسيقي عبر استيعابه أصواتاً موسيقية متعددة ثقافياً.
في مقطوعته الشهيرة، "القنطرة"، يدمج شاهين الصوت الأندلسي/الإسباني، بالعربي، عبر فكرتين؛ الأولى تتعلق بالجذور التاريخية المشتركة نتيجة الاحتكاك أثناء الحكم العربي في الأندلس؛ إذ إن القنطرة هي "الكانتارا" في اللغة الإسبانية، وأصلها العربي يعني قوساً. أما الفكرة الثانية، فهي ترتبط بالتكوين الثقافي المشترك لحوض الأبيض المتوسط. فالموسيقى تتجاوز الالتباس الهوياتي. مثلاً، يستدعي في مقطوعته موسيقى الفلامنكو؛ فلا نعرف أين تنتهي الفلامنكو وأين تبدأ الموسيقى العربية. تتحوّل الموسيقى إلى بيئة تتآلف فيها ثقافات متعددة.
يتميز شاهين بالأسلوبية، إذ لديه شخصية واضحة في العزف والتلحين، ويعطي اهتماماً للتفاصيل الصغيرة؛ فجوهر العمل يتمثّل في اللحن والثيمات، تلك البنية المترابطة، والاندماج بين قيم لحنية مختلفة. مثلاً، في قطعة "رقص متوسطي"، تبدو الافتتاحية شرقية، وربما تبدو المضامين اللحنية كثيرة، وهو تصور رومانتيكي أيضاً، لكنها صورة بين التوليف والابتكار.
إنها استدراج لعناصر لحنية معينة، إذ تتعايش الموسيقى العربية مع الغربية والهندية. وأكثر ما يلفت الانتباه عند الدقيقة الخامسة، حين يشق لحن شرقي يميل للتطريبية، صوت راغا هندية. نتفهم رؤية شاهين الموسيقية في دمج الأصوات المختلفة، فهي من ناحية تظهر بصور منفصلة أو مركبة مع بعضها، وفي أخرى متداخلة ومنطلقة.
قدّم شاهين الموسيقى العربية ضمن تصوره الجمالي، وإلمامه العميق بتنوعها ومرونتها. عندما نال المرتبة الأولى في مسابقة العزف بالكمان للشباب عام 1984، كان أمام خيارين، أن يستمر كعازف ضمن السياق الكلاسيكي الغربي، أو يشق طريقه كمؤلّف موسيقي عربي.
ولأنه في تصوره لا يمكن التوفيق بين دراسة الموسيقى العربية والغربية، ركّز جهوده على الموسيقى الشرقية، فالموسيقى الغربية تظل فرصة للابتكار داخل التراث الموسيقي. وهو ما فعله حين زاوج عناصر عربية بغربية، وأيضاً شرقية هندية.
نما شاهين متشبعاً بجذور موسيقى متنوعة، ومتعمقاً بمسار تطورها الذي عصفت به آليات السوق. فلم يتخلّ عن الزخرف والتكنيك الصوتي للأبعاد الموسيقية الشرقية، إضافة إلى إصراره على أهمية الارتجال الموسيقي في التقاسيم، حيث تظهر رهافة الموسيقي. هكذا، يتطرق اللحن في عمله للتزاوج بين الأوركسترا وآلات رباعية. تنمو الثيمات الشرقية مع الغربية في اندماج تام، ليؤكد أنه صاحب رؤية ومبتكر.