بميزانية خمسة آلاف دولار فقط، وغياب أي نية أو حتى أمل بتحقيق أي كسب مادي، وبمحض الشغف بالموسيقى، أطلق المؤسس كلود نوب Claude Nobs الدورة الأولى. حقق المهرجان وقتها حضوراً لم يتجاوز الألفي زائر. مع مطلع الألفية الثالثة، بلغ متوسط الارتياد السنوي الربع مليون شخص، مئة ألف يشترون تذاكر الحفلات الكبرى والبقية تتجوّل بين عديد العروض الجانبية والمجانية.
هذا الصيف، حلّ نجوم موسيقى بوب كبار ضيوفاً، كإلتون جون Elton John وستينغ Sting وجانيت جاكسون Janet Jackson. كما وأيضاً أعلام هاردروك مخضرمون كزي زي توب ZZ Top وسلاش Slash، عازف الإلكتريك غيتار الأسبق لفرفة "غنز ن روزس" Guns’n roses. دونما إغفال لأسماء لامعة ومألوفة في مجال الجاز، كتشك كوريا Chick Corea وتشيللي جونزاليز Chilly Gonzales.
تخلّلت الفرق المشاركة الكثير ممن تُقدّم الموسيقى الإلكترونية، الراقصة منها مثل التكنو، كروبرت هود Robert Hood وابنته ليريك Lyric ضمن Floorplan. حضورٌ لافت لأفريقيا عبر النيجيري سوين كوتي Seun Kuti والماليّة فاطوماتا ديوارا Fatoumata Diwara بينما غيابٌ لافت للشرق الأوسط، ما عدا ثنائي التكنو السويسري من أصل مغربي إيراني رمين ورضا Ramin&Reda.
باستثناء الموسيقى الكلاسيكية الغربية وفلكلور الشعوب، يبدو مهرجان مونترو عابراً للأجناس الفنية. الأمر الذي يطرح جدوى تسميته بمهرجان للجاز. في الواقع، كان المؤسس والمدير الراحل كلود نوب قد أزال مصطلح جاز من شعار المهرجان لدورتي 1976 و1977، قبل أن يُعيده مجدداً لمجّرد اعتياد الناس عليه، فظل نجاح المهرجان مقترناً في انفتاحه وعدم تحوله إلى نادٍ دولي مغلق للجاز.
وقفة كتلك عند العنوان تستدعي الإضاءة على أزمةٍ يمر فيها الجاز؛ حيث يبدو أن لا جماهيرية تُبتغى ولا استمرارية تُرتجى من حدثٍ تكنّى به، إن هو اقتصر عليه. الأمر الذي قد يشي بزواله وانحساره عن الساحة الفنية، أو حتى انقراضه أو انحلاله واندماجه بأجناس أخرى قريبة، الأمر الذي بدأ فعلاً ومنذ سبعينيات القرن الماضي، مع ألوان كالفيوجن Fusion واللاتين جاز والجاز روك.
ليست فرق الجاز التي تعتلي خشبات اليوم سوى خَلَف ما كان يُعرف أوائلَ القرن العشرين بالفرقة الكبيرة Big Band، وهي أوركسترا من هوائيات نحاسية وخشبية وطبول، كانت في ما مضى عسكرية تجوب مدن الجنوب الأميركي، دخلت إلى النوادي والمسارح لتعزف موسيقى أفرو- أميركية رقص عليها الناس من شتى الألوان والطبقات الآجتماعية، ضمن حدود الفصل العنصري.
بمُقتضى الفاقة إثر الكساد العظيم والذي ضرب اقتصاد الولايات المتّحدة في عشرينيّات القرن الماضي، تحلّلت تلك الفرق الكبيرة، لتُفرّخ فرقاً أقل عدداً وأيسر تمويلاً، عِدادها يبدأ من ثلاثة ولا ينتهي بخمسة أعضاء، عتادها الكونترباص والطبل Drums وإليهما تنضم آلات كالترومبيت والترومبون والساكسوفون إضافة إلى البيانو، لينشأ لون جاز سيُعرف بالبوب Bop أو البي بوب B-Bop.
تلك الطفرة الموسيقية التي طرأت بفعل كارثة اقتصادية، تمخّض عنها الفن الوحيد الذي وهبته أميركا إلى الإنسانية؛ الجاز. حيث لم تعد الناس لترقص على إيقاعاته التي ازدادت تركيباً وتعقيداً، بل أخذت تُنصت إلى تجريد انسجاماته الهارمونية الكروماتية واللامقامية. فطُوِّب الجاز موسيقى رفيعة، حافظت على عامل الارتجال، فيما حازت على حمولة فكرية معقدة وشحنة عاطفية مؤثرة.
فنياً، أسهم ذلك في نخبوية الجاز أداءً وجمهوراً ونمو ظاهرة ما يعرف بـ نادي الجاز Jazz Club حيث منصة صغيرة يقف عليها العازفون. تتحلّق حولها مقاعد للمستمعين لا تتجاوز الخمسين. جماهيرياً، أسهمت صناعة التسجيلات في نشر الجاز محلياً أميركياً وعالمياً، بيد أن ألبومات الجاز التي اجتازت العتبة البلاتينية، أي مبيع المليون نسخة، لم تتجاوز في أفضل الأيام الأصابع العشر.
سياسياً واجتماعياً، فيما مثّل الجاز ورموزه زمانَ خمسينيّات وستّينيّات القرن الماضي، روح حركة التحرر بين شرائح الأميركيين السود، وتعبيراً موسيقياً عن هويّتهم الثقافية، بدأ لون الراب والهيب هوب Hip-Hop مطلع الثمانينيّات بالحلول عوضاً عنه، وهو بالأساس سليله، نظراً لخفّته وبساطته وبالتالي نفوذه وجماهيريّته، إلى جانب ألوان أخرى أكثر غنائية كالبلوز والأر أند بي R&B.
كسائر أجناس الموسيقى الحيّة، يتطّلب الجاز إجادة متناهية في العزف على آلاته، كالبيانو أو الترومبيت أو الكونترباص. من شأن ذلك أن يتطلب وقتاً وجهداً، ليس ابتغاءً للدربة وحسب وإنما، للإلمام بعموم العلوم الموسيقية. نظراً لما قد بلغه الجاز من رقيّ في تطبيقات إنسجاماته ومعالجاته الهارمونية. مما سوف يحتم على عازفيه الساعين إلى الاحتراف، خوض غمار سوق تنافسية شرسة.
لذا تُزاحم الموسيقى الإلكترونية إرث الجاز الحي، لسهولة حيازة أدواتها وشبه آنية الخلق والإبداع بوسائطها. ناهيك عن بساطة وصل تلك الآلات بالمُكبّرات والمُسجّلات من الأجهزة، وبالتالي القدرة المباشرة على التحكّم بالفضاء الصوتي للصالة أو استوديو التسجيل الذي تسكنه الآلات ويعمل في مجاله العازفون. من هنا تبدو الموسيقى الإلكترونية طريقاً بديلاً أقصر للكثير من روادها.
يُفسّر كل ما تقدّم أولاً، سعي مهرجان مونترو في كل سنة، إلى استضافة فنانين، سواء فرقاً أو أفراداً، من جميع المشارب الموسيقية. وبالتالي، تُعزّز إدارة المهرجان انفتاحها على روح العصر ومكامن الربح والرواج فيه، بغية الحفاظ على نجاح وافر ومستدام في كل دورة لكل عام. كما يُفسّر ثانياً حِرص المهرجان على الاحتفاظ بالجاز، بوصفه عنواناً جامعاً تنضوي تحته موسيقات العصر المختلفة.