يحضر الفزع لدى البشر بوصفه خوفاً لامنطقياً من العالم أو أحد عناصره، خوف لا نعرف مسببه، يتحول إلى سلوك جسديّ يهدد الوعي وإدراكنا للآخرين، هو يكشف هشاشة اللحم البشريّ أمام خطر مميت. في الوقت ذاته يجعل العجز أمام المجهول ظاهراً، ويتجلى بحيرة أو شلل أو عنف من دون معنى، كون الوضعية البشريّة نفسها مهددة، وشروط حفظ الحياة واستمرارها تنهار، خصوصاً في حالة الأوبئة حيث تصبح النجاة الفرديّة هم الجميع.
حاولت السينما والمنتجات البصريّة التقاط هذا الفزع، الرهان على المخيّلة، خصوصاً حين يكون العدو خفياً أو مجهولاً كحالة فيلم The Happening، هناك شيء ما سيحصل ويهدّد الجميع ولا نعرفه. وهنا تظهر تقنية خارج اللقطة -hors champ، تلك التي تستخدم بكثرة في أفلام الرعب ويعتبر ألفريد هيتشكوك معلمها، ما يحصل خارج اللقطة هو مجموعة من القوى التي لا تظهر مرئيَّة أمامنا على الشاشة، لكنها تترك أثراً واضحاً على سير الحبكة ودوافع الشخصيات، أخطار وتهديدات لا نراها، لكننا نتلمَّس أثرها بوضوح. وفي بعض الأحيان، يمكن لها أن تطغى على كل ما هو مرئيّ، وتترك لمخيلتنا ملء الفراغات، وهذا ما لا نراه في التقارير الإخباريّة، حيث تستخدم الصورة المجهريّة للفيروس لإكسابه وجهاً، علماً أن هذه الصورة لا تفيد بشيء، لكنها تطمئن المشاهدين، "أننا" نعرف من هو "العدو" ونسعى للقضاء عليه، كوننا حددّنا "هويته وشكله".
يهدد الفزع الطبيعة البشريّة، خصوصاً في ظل الأوبئة التي تهدد "كل" أشكال الحياة، قرارات الموت والحياة تتغير، بسبب تغير تعريف الحياة، وتحول البعض إلى موتى - أحياء مثلاً كما في أفلام الزومبي. إذْ تتحول الحياة اليوميّة إلى تمرين على النجاة، لا الاستقرار، كون الكل مهدداً بأن ينفى خارج تعريف الحياة، خصوصاً أن العالم الخارجي المكشوف يتحول إلى ساحة معركة ضد العدو المحتمل، ما يعني بارانويا هائلة وتخوّفاً من ذاك المجهول الذي لا نقاتله مباشرة، بل نقاتل أعراضه وضحاياه. وهنا يظهر مفهوم "المريض صفر" الذي إن تم القضاء عليه انتهى الوباء أو اكتشف لقاحه، أشبه بحلّ سحريّ للحبكة ونهاية العالم بالعودة إلى الأصل، لكن المشكلة أن الأصل نفسه لا يتطابق مع نسخه، وهذا ما نراه في كل الأوبئة على مر التاريخ. إيجاد المريض صفر لا يعني شيئاً سوى ضبط نقطة البداية، هو إجراء وقائي وليس أسلوباً للقضاء الجذري على الوباء، وهذا ما يتكرر في أغلب الأفلام التي تتحرك حكاياتها نحو إيجاد نقطة البداية، وغالباً ما يكون هذا "الشخص" منيعاً ضد الأعراض، لا تظهر عليه بل يقوم فقط بنقلها، وهنا يظهر الخيار بين قتله أو الإبقاء على حياته، في مساءلة الطبيعة البشريّة نفسها، ومفهوم الدفاع عن النفس. هل نقتل أحدهم لننجو جميعاً أم لا؟
اقــرأ أيضاً
حاولت السينما والمنتجات البصريّة التقاط هذا الفزع، الرهان على المخيّلة، خصوصاً حين يكون العدو خفياً أو مجهولاً كحالة فيلم The Happening، هناك شيء ما سيحصل ويهدّد الجميع ولا نعرفه. وهنا تظهر تقنية خارج اللقطة -hors champ، تلك التي تستخدم بكثرة في أفلام الرعب ويعتبر ألفريد هيتشكوك معلمها، ما يحصل خارج اللقطة هو مجموعة من القوى التي لا تظهر مرئيَّة أمامنا على الشاشة، لكنها تترك أثراً واضحاً على سير الحبكة ودوافع الشخصيات، أخطار وتهديدات لا نراها، لكننا نتلمَّس أثرها بوضوح. وفي بعض الأحيان، يمكن لها أن تطغى على كل ما هو مرئيّ، وتترك لمخيلتنا ملء الفراغات، وهذا ما لا نراه في التقارير الإخباريّة، حيث تستخدم الصورة المجهريّة للفيروس لإكسابه وجهاً، علماً أن هذه الصورة لا تفيد بشيء، لكنها تطمئن المشاهدين، "أننا" نعرف من هو "العدو" ونسعى للقضاء عليه، كوننا حددّنا "هويته وشكله".
تظهر الجموع الفزعة دوماً بوصفها لاعقلانيّة، تركض نحو مكان متخيل في سبيل نجاتها، بعد خراب العالم، هناك دوماً مساحة آمنة، لا بد من اجتياز الصعوبات من أجل الوصول إليها، كما في فيلم Bird Box، هناك مساحة للجميع تقطع بطلة الفيلم وطفلاها شتى المصاعب في سبيل الوصول إليها، إذ تم التسليم بأن العالم كما نعرفه انهار، لنرى أنفسنا أمام حبكة مغامرات البطل فيها معطوب والمكان عدوانيّ، وهنا يظهر الفزع كقوّة عقلانيّة تتحول إلى محرك للنجاة بسبب وجود "أمل" من نوع ما. التهديد الذي تشعر به الموضوعة البشريّة المعطوبة يصبح طاقة مُنتجة في سبيل التكيف والوصول إلى بر الأمان، الخطر المجهول يتلاشى أثره أمام الإيمان العميق بأن هناك مأوى من نوع ما، وهنا تظهر خاصية جديدة للفزع. صحيح هو مستمر في الزمن، لكنه سريع التلاشي بمجرد ظهور الإيمان بفكرة ما، تعيد للفرد توازنه وتحضّه على الاستمرار.