من يقرأ كلمات الأسى والحزن في صفحات فيسبوك، لأصدقاء وزملاء مهنة، بعد وقتٍ قليلٍ على إعلان نبأ رحيل نجيب عياد، يُدرك سريعًا موقع الراحل في المشهد السينمائي العام. ونبأ رحيله (صباح الجمعة، 16 أغسطس/آب 2019)، تنبيهٌ إلى ندرة الاهتمام العربي، النقدي والصحافي والإعلامي، بمن يعمل في مجالات سينمائية غير الإخراج والتمثيل والكتابة والتصوير والتوليف، وإنْ يكن الاهتمام بالمجالات الـ3 الأخيرة أقلّ من الاهتمام بـ"الوظيفتين" الأولى والثانية. إذْ يصعب العثور على مقالات وحوارات وتحقيقات، جدّية وسجالية وعميقة، مع موزّعين ومنتجين وناشطين في المجال السينمائي العربي، من دون تجاهل اشتغالات فردية نادرة في هذا الإطار.
رحيل نجيب عيّاد (1953 ـ 2019) مفاجئ. الرجل ناشطٌ منذ 44 عامًا، بدءًا من النقد السينمائي في Le Temps التونسية منذ تأسيسها عام 1975. حاضرٌ في المشهد التونسي تحديدًا، نقدًا وأندية سينمائية، والمُطّلع على حركة تلك الأندية في دول المغرب العربي، وليس في تونس فقط، يُدرك ماهية الدور، الثقافي والاجتماعي والفكري، الذي تُتقن تلك الأندية ممارسته، في أعوامٍ عديدة. فالنادي السينمائي، المنبثق من رغبة في المُشاهدة والتأمّل والتثقيف والتحريض على التساؤل والبحث، يبقى أحد المداخل الأساسية للوعي المعرفي، المتجذّر في علوم إنسانية وآداب وجماليات أيضًا، ترافق صناعة السينما وتؤثّر بها.
بين عامي 1973 و1979، يتولّى نجيب عيّاد منصب السكرتير العام لـ"الاتحاد التونسي للأندية السينمائية"، ثم يُصبح رئيسًا له، قبل تعيينه مديرًا لـ"الجمعية التونسية للإنتاج والتوزيع السينمائي"، بين عامي 1980 و1988، المعنيّة بالإنتاج، كما بالترويج الدولي، ما يتيح لعيّاد فرصة إنتاج، أو المشاركة في إنتاج أفلامٍ تونسية مختلفة. أما التأكيد على تلك الأعوام، فمنبثق من كونها انعكاسًا لتبدّلات في الاجتماع والثقافة والصناعة السينمائية والاقتصاد، في بلدٍ يحاول استكمال مشاريعه النهضوية المتنوّعة، رغم فداحة القمع الأمنيّ لاحقًا.
ينتقل نجيب عيّاد من سبعينيات القرن الـ20، المُقيمة في غليان التفكير والسجال وطرح أسئلة الحياة والهوية والعلاقات والانتماء والبحث عن معاني الأشياء وتفاصيلها، إلى ثمانينيات القرن نفسه، بما هي عليه من خضّات وارتجاجات ومحاولات جدّية ودائمة لجعل السينما التونسية مرايا واقع وذاكرة وانفعال وذات وحقائق. فلعيّاد جهد مبذول من أجل فيلم أو حوار أو نقاش أو إنتاجٍ، أو من أجل تحسين شروط تنظيم دورات سنوية لـ"أيام قرطاج السينمائية"، منذ تكليفه بإدارتها عام 2017، خلفًا لإبراهيم لطيّف. لكن الـ"أيام"، المالكة صيتًا محبَّبًا في تاريخها، خصوصًا أنّها حيّز لكشف بعض غليان السينما، التونسية والعربية والأفريقية تحديدًا، في مقارباتها المتنوّعة أحوال العالم ومتغيراته، وأحوال الاجتماع والناس والعلاقات، الـ"أيام" هذه نفسها تعاني تخبّطات وارتباكات في أعوام عديدة سابقة، ومحاولات إنقاذها جادّة، لكنها عاجزة عن فعل المطلوب، لاهتراءٍ حاصل في مؤسّسات رسمية، أو في علاقة مؤسّسات رسمية وغير رسمية بها.
في مطلع الألفية الثالثة، يُشير نجيب عيّاد إلى حيوية اشتغال، يراها أكبر من سابقاتها. يقول إنّ الإنتاج واصلٌ إلى 6 أفلام روائية طويلة و15 روائياً قصيراً، أي 3 أضعاف المُنتَج قبل 10 أو 15 عامًا (حوار منشور في "لو سوار الجزائر"، 4 يونيو/حزيران 2005). يُشير عيّاد إلى أنّ كثرة الإنتاج تلك "غير كافية"، وأنّ لهذه السينما مشاكل، "بداية مع جمهورها المحلي، ثم مع الجمهور الأجنبي".
يقول إنّ أسباب ذلك عديدة: لعلّ الكتّاب "يلتزمون أعرافًا أكثر من قبل"، أو ربما هم "أقلّ جرأة وتساهلاً". لكن، "هناك الرقابة أيضًا. فالمخرجون يعتمدون منطق الرقابة الذاتية، المادية وربما الأخلاقية". ورغم إقراره "أنّ الشعلة لم تعد حيّة"، يرى أن هناك "مواهب شابّة كثيرة تكشف عن ذاتها، وتُبدي اهتمامًا متزايدًا بالتصوير السينمائي".
هذا حاصلٌ بوفرة في مرحلة لاحقة. "ثورة الياسمين" تحوّل فعلي وخطوة "إيجابية" جديدة للسينما التونسية، نحو إيجاد توازن جمالي بين وقائع العيش في لحظة التبدّلات الكبيرة (الفردية والجماعية)، وكيفية نقل الوقائع تلك إلى سينما سجالية ومُثيرة لمتعة المُشاهدة، رغم القسوة. وجيب عيّاد شاهدٌ على هذا، في لحظة صدام بين رافضين ومنغلقين ومتزمّتين، واشتغالات تصنع جديدًا وتجديديًا رغم كلّ شيء.