يعود بنا عرض مسرحي جديد في الهواء الطلق للحديقة الجنوبية لبرج لندن هذا الصيف إلى عام 1536، حيث يتتبع آخر 17 يوماً من حياة آن بولين، الزوجة الثانية للملك هنري الثامن.
فلا تزال بريطانيا تستعيد ذكرى هذه المرأة الاستثنائية التي لعبت دوراً في تبديل وجه الملكية فيها حتى بعد مرور حوالي 500 عام. وتقدّم عروضاً حيّة داخل برج لندن، بدأت من مايو/ أيار لتستمر حتى آخر أغسطس/ آب، لتروي تلك الأيّام المأساوية التي عاشتها بولين في هذه القلعة الشهيرة، منذ سجنها واستجوابها إلى محاكمتها وإعدامها.
نظر سكان لندن في سبعينيات القرن الحادي عشر الميلادي إلى ويليام الفاتح برهبة، عندما بنى برجاً حجرياً ضخماً (برج لندن) في قلب حصنه في هذه المدينة للدفاع عن سلطته الملكية وإعلانها. واستغرق بناؤه حوالي 20 عاماً. واليوم، بعد مرور ما يقرب من ألف عام، لا يزال البرج يتمتّع بالقدرة على الإبهار والترويع. ويجذب البرج الحامي لجواهر التاج، ما يزيد عن ثلاثة ملايين زائر سنوياً إلى هذا المكان الذي تحيا فيه التقاليد وقصص الأشباح وحكايات رهيبة عن التعذيب والإعدام. أمّا عوامل جذب الزائرين وازدياد أعدادهم بشكل كبير في القرن الثامن عشر، فيرجّح أنّها بسبب تاريخ بريطانيا المضطرب، حيث لعبت روايات الأشباح التي تطارد البرج دوراً في إضافة نوع من الغموض والمغامرة إلى المكان.
ويقال إنّ الملكة آن بولين لا تزال تلاحق وتراقب موقع إعدامها على البرج الأخضر، وأنّ أربيلا ستيوارت، ابنة عم إليزابيث الأولى التي تمّ تجويعها خلال فترة احتجازها بتهمة الزواج من دون الحصول على إذن ملكي، تزور منزل الملكة باستمرار، كما يعتقد انّ هناك شبحين صغيري السن يعودان للأميرين اللذين اختفيا فيه. فضلاً عن ذلك، يمتلك البرج تاريخاً أكثر ثراء وتعقيداً، حيث كان موطناً لمجموعة واسعة من المؤسسات، بما في ذلك الأسلحة الملكية وحديقة حيوانات.
وكان البرج الملجأ الأكثر أماناً على الأرض في بريطانيا آنذاك، فقد حرس الممتلكات الملكية والعائلة المالكة في أوقات الحرب والعصيان. وفي جنباته تمّ اختبار الأسلحة والدروع التي صنعت وخزنت فيه حتى عام 1800، كذلك سيطر البرج على المعروض من أموال الدولة، حيث صنعت فيه جميع العملات المعدنية من عهد إدوارد الأول حتى عام 1810. وسكنه الملوك كقصر فخم لمدة 500 عام.
يدرك كل من قرأ تاريخ بريطانيا ما يحمله برج لندن من قصص مشؤومة لملوك قتلوا وماتوا في دهاليزه. فخلال الحرب التي عرفت باسم "حرب الورود"، قتل هنري السادس فيه في عام 1471. وفي وقت لاحق، اختفى أميران هما ابنا منافسه الكبير إدوارد الرابع، في عام 1483. ولم يعثر عليهما لغاية عام 1674، حيث وجد هيكلان عظميان في البرج. أعيد فحص العظام في عام 1933، ليتبين أنّها تعود لصبيين يبلغان من العمر 12 و10 أعوام وهما العمران اللذان اختفى فيهما الأميران.
جهل الرجال والنساء الذين دخلوا هذا البرج مصيرهم لأكثر من 800 عام، فبقي بعضهم لأيام فقط بينما احتجز آخرون لسنوات. وخلال عصر تيودور، أصبح البرج أهمّ سجن حكومي في البلاد، وسجن فيه أي شخص يعتقد أنّه يهدّد الأمن القومي في البلاد.
سجن وأعدم في البرج أشخاص امتلكوا مكانة عالية، بينهم ملكات وملوك، مثل الملكة إليزابيث الأولى التي سجنتها أختها الملكة ماري الأولى قبل أن ترث العرش للاشتباه بتسببها في التمرد، كذلك احتجزت فيه السيدة جان غراي التي توجت ملكة لبريطانيا لمدة تسعة أيام فقط من 10 يوليو/ تموز إلى التاسع عشر منه عام 1553 وأعدمت في ما بعد. ومن الشخصيات الشهيرة التي تمّ تعذيبها في البرج، كان جاي فوكس، الذي وقّع اعترافاً كاملاً بعد التنكيل به بتخطيطه لمؤامرة البارود لتفجير البرلمان الإنكليزي.
أمّا الحادثة التي تركت الأثر الأكبر في نفوس أهالي هذا البلد، وجرت أهمّ أحداثها في هذا البرج، فكانت طلاق الملك هنري الثامن من زوجته الأولى كاثرين أراغون وزواجه من آن بولين في عام 1533، حيث قام بتجديد غرف القصر الرّائع الذي كان يقع جنوب البرج لتتويج عروسه الجديدة، واحتفالهما هناك في الليلة التي سبقت عبورها بفخر وانتصار في مدينة لندن إلى دير وستمنستر.
قبل زواجها من الملك، كانت بولين قد خطبت سراً إلى هنري بيرسي في أوائل عام 1523، أحد أثرياء ذلك الزمن، لكن الخطوبة فسخت حين رفضها والد بيرسي. وبعد مرور سنوات، في عام 1526، بدأ هنري الثامن سعيه خلفها. كانت بولين أذكى من القبول بالتحوّل إلى عشيقته كما فعلت أختها ماري، وهو ما دفع الملك إلى التفكير بطريقة لإلغاء زواجه من كاثرين كي يتسنى له الارتباط رسمياً بها. وأمام رفض البابا كليمنت السابع لرغبته، بدأ هنري بالانفصال عن سلطة الكنيسة الكاثوليكية في إنكلترا وتزوج من بولين.
أنجبت بولين الملكة إليزابيث الأولى، ما أصاب هنري بخيبة أمل، لأنّه أراد صبياً، بيد أنّ بولين عانت من ثلاث حالات من الإجهاض بعد ذلك، ومع حلول عام 1536 كان الملك قد بدأ بمغازلة جين سيمور وأراد العثور على أسباب لإنهاء زواجه من بولين.
لم يطل انتصار بولين وسعادتها بالزواج من ملك، حتى عادت بعد ثلاث سنوات إلى البرج ذاته، مهزومة ومتّهمة بـ"الزنا" والخيانة في 2 مايو/ أيار، حيث احتجزت في المكان الذي احتفلت فيه بفرح، وحوكمت أمام هيئة من المحلفين، تواجد فيها خطيبها السابق هنري بيرسي وعمها توماس هوارد. وجدت مذنبة وأعدمت بعد أربعة أيام بقطع رأسها بالسيف على برج غرين.