سايغون، جنوب فيتنام. حانة اسمها Apocalypse Now، يجلس فيها 4 جنود أميركيين عُجُز سود، يراقبهما عجوزان فيتناميان. هذا في Da 5 Bloods لسبايك لي (تعرضه المنصّة الأميركية "نتفليكس" منذ 12 يونيو/ حزيران 2020). لتقريب المشهد، يشرح أحدهم أنّ هؤلاء الجنود تقاتلوا هنا قبل 46 عاماً. هذه هوّة زمنية، يحاول سبايك لي ملأها بأجوبة طويلة ليستعيد السياق، ثم ليفهم المتفرّج الصلة بين ما جرى في أميركا في سبعينيات القرن الماضي، وما يجري فيها الآن. لذا، يُراكم الفيلم مقارنات مُركّبة بين الماضي والحاضر، والبيض والسود، والسود والفيتناميين، والغزو الفرنسي ثم الغزو الأميركي للهند الصينية، ثم غزو "ماكدونالد" بعد فشل غزو المدافع.
لتوضيح هذا، يبدأ الفيلم بخطاب للملاكم محمد علي عن حرب فيتنام والحقوق المدنية وإنجازات السود في الرياضة، وينتهي بآخر لمارتن لوثر كينغ. واضحٌ من خطابات كهذه أنّ السود صنعوا ثراء أميركا وانتصاراتها، لكنّ أميركا لم تُنصفهم. هذا حشو تاريخي نضالي يجترّ الماضي، ويعرقل إبداع المخرج، لتقديم نسيج حكائي يمكّن المتلقّي من الاستمتاع بالعمل السينمائي، سواء اتّفق مع طرح سبايك لي أو لا.
الفيلم مزيج من التخييل والتوثيق، عن واقع السود في أميركا، عبر 5 جنود سود صالحين، لا يشبهون الصعاليك الـ7 أو الـ8، كعناوين أفلام هوليوودية كثيرة. انطلاقاً من موقف نضالي منحاز للقضية، يُقدِّم سبايك لي 5 شخصيات عبر وقائع تاريخية تمتدّ نصف قرن، في 154 دقيقة. هذا معقّد، وله نتيجتان: أولاً، تبدو الشخصيات فقيرة. جندي يتعرّف إلى طفلته بعد 46 عاماً، بينما أمّها لا تزال شابّة. ثانياً، يتسبّب الـ"فلاش باك" في كسر السرد، بسبب الذهاب والإياب بين الماضي والحاضر. يستوعب البشرُ الزمنَ بشكلِ متتاليات سببيّة، تنطلق من اللحظة إلى المستقبل. لكنّ خلخلة المتتاليات تُبطل السببية. بالقفز من الحاضر إلى الماضي، ثم العودة إلى الحاضر، يصير الزمن متقطّعاً. هكذا، يتوه المتفرّج.
في النصف الأول، السيناريو تراكميّ كعمل النملة، فيه محتوى تعليمي للجمهور الناشئ، ليعرف سياق الحبكة. يغلب التوثيق والتفسير التاريخيان، فجاء بناء المَشاهد ضعيفاً، لأنّها مَشاهد تقريرية إخبارية. تُعرض المعلومات غالباً في حوار خطابي خشبي واعٍ ومباشر وقصْدي أكثر ممّا يجب. حوار نضالي مشبع بالجمل الاعتراضية، يليق بافتتاحية صحيفة يسارية. حوار كتبه سارد عَليم مُتطفّل، يتدخّل ليشرح كلّ واقعة.
في الفيلم، جندي ينخرط في مونولوغ لربع ساعة، ليثبت لنفسه أنّه يحبّ ولده. جندي آخر يتحدّث كطبيب أمراض نفسية، ويحلّل انكساراته وتأنيب الضمير والقدرة على التكيّف. حوار يجعل جندياً مبتدئاً يتحدّث كمؤرّخ عريق. هذا خطاب المخرج وليس كلام جنود بسطاء. خطاب يدين تاريخ أميركا. يبدو الفيلم سبب اختيار سبايك لي لرئاسة لجنة تحكيم مهرجان "كانّ" 2020، لمنحه فرنسا موقعها "المشرّف" في تاريخ الهند الصينية.
اقــرأ أيضاً
في النصف الثاني، السيناريو منسوج كعمل العنكبوت. في هذه المرحلة، صمّم سبايك لي حبكة مزدوجة تربط الماضي بالحاضر. واحدة بهدف وطني وأخرى بهدف شخصي. هناك حبكتان: أساسية مكشوفة تبحث عن جثّة أخ، وسرّية تبحث عن الذهب. في الأولى، يبحث الأخوة الصالحون عن جثة أخيهم وقائدهم المحبوب نورمان، الجندي الوطني والخطيب المفوّه، الذي يعتبر التطوّع في الجيش خدمة للمصلحة العامة واختباراً للرجولة، ويعتبر التهرّب من التجنيد عاراً على الرجال. نورمان يتحدّث عن أخوة الدم بكثافة. هنا، تختبر الحبكة ولاء الأخوة وإخلاصهم للقيم النبيلة للماضي. في الثانية، يتمّ اختبار أخوة الدم للبحث عن الذهب المفقود. هنا، يسيل دم كثير من أجل المال، بينما يُسمَع خطابٌ مَسيحانيّ "يُطفئ الجشع إلى حطام الدنيا"، و"المال مصدر الشرور كلّها".
في اختبار أخوة الدم بالذهب. لمن النصر؟ أنقذت الحبكة المزدوجة النصف الثاني من الرتابة، وجعلته نسيج عنكبوت بدلاً من أن يبقى تراكمياً كعمل نملة. عند كتابة اسم الفيلم في "غوغل"، يُعلَن عن مليار ونصف مليار نتيجة بحث في نصف ثانية. إذاً، هذا فيلم يقول شيئاً عن الحاضر، ويحمل شحنة جمالية وأيديولوجية. لاحتجاجات الحاضر بعد مقتل جورج فلويد (25/ 5/ 2020) امتداد في سوابق تاريخية كثيرة. رغم ذلك، لم تتحقّق العدالة والمساواة بعد، والجندي الأسود المتقاعد، الذي صوّت لدونالد ترامب، يُقتل في الفيلم بوحشية. بإطلاق الفيلم تزامناً مع الاحتجاجات الراهنة، يُصفّي سبايك لي الحساب مع المرحلة. يريد قول كلّ شيء دفعة واحدة ومباشرة أكثر مما ينبغي، فيبدو الفيلم خطابياً في عشرات اللقطات. فنياً، الفيلم أقلّ من مستوى أفلامٍ تناولت واقع السود في أميركا، كـ"غرين بوك" (2018) للمخرج الأبيض بيتر فاريلّي.
الطاقة النضالية المكشوفة مضرّة بالسينما. مهاجمة دونالد ترامب والعنصرية، وترديد شعارات "حياة السود تساوي"، لا تُحوّل مرافعةً سياسية تاريخية إلى فيلمٍ مُدهش.
الفيلم مزيج من التخييل والتوثيق، عن واقع السود في أميركا، عبر 5 جنود سود صالحين، لا يشبهون الصعاليك الـ7 أو الـ8، كعناوين أفلام هوليوودية كثيرة. انطلاقاً من موقف نضالي منحاز للقضية، يُقدِّم سبايك لي 5 شخصيات عبر وقائع تاريخية تمتدّ نصف قرن، في 154 دقيقة. هذا معقّد، وله نتيجتان: أولاً، تبدو الشخصيات فقيرة. جندي يتعرّف إلى طفلته بعد 46 عاماً، بينما أمّها لا تزال شابّة. ثانياً، يتسبّب الـ"فلاش باك" في كسر السرد، بسبب الذهاب والإياب بين الماضي والحاضر. يستوعب البشرُ الزمنَ بشكلِ متتاليات سببيّة، تنطلق من اللحظة إلى المستقبل. لكنّ خلخلة المتتاليات تُبطل السببية. بالقفز من الحاضر إلى الماضي، ثم العودة إلى الحاضر، يصير الزمن متقطّعاً. هكذا، يتوه المتفرّج.
في النصف الأول، السيناريو تراكميّ كعمل النملة، فيه محتوى تعليمي للجمهور الناشئ، ليعرف سياق الحبكة. يغلب التوثيق والتفسير التاريخيان، فجاء بناء المَشاهد ضعيفاً، لأنّها مَشاهد تقريرية إخبارية. تُعرض المعلومات غالباً في حوار خطابي خشبي واعٍ ومباشر وقصْدي أكثر ممّا يجب. حوار نضالي مشبع بالجمل الاعتراضية، يليق بافتتاحية صحيفة يسارية. حوار كتبه سارد عَليم مُتطفّل، يتدخّل ليشرح كلّ واقعة.
في الفيلم، جندي ينخرط في مونولوغ لربع ساعة، ليثبت لنفسه أنّه يحبّ ولده. جندي آخر يتحدّث كطبيب أمراض نفسية، ويحلّل انكساراته وتأنيب الضمير والقدرة على التكيّف. حوار يجعل جندياً مبتدئاً يتحدّث كمؤرّخ عريق. هذا خطاب المخرج وليس كلام جنود بسطاء. خطاب يدين تاريخ أميركا. يبدو الفيلم سبب اختيار سبايك لي لرئاسة لجنة تحكيم مهرجان "كانّ" 2020، لمنحه فرنسا موقعها "المشرّف" في تاريخ الهند الصينية.
في النصف الثاني، السيناريو منسوج كعمل العنكبوت. في هذه المرحلة، صمّم سبايك لي حبكة مزدوجة تربط الماضي بالحاضر. واحدة بهدف وطني وأخرى بهدف شخصي. هناك حبكتان: أساسية مكشوفة تبحث عن جثّة أخ، وسرّية تبحث عن الذهب. في الأولى، يبحث الأخوة الصالحون عن جثة أخيهم وقائدهم المحبوب نورمان، الجندي الوطني والخطيب المفوّه، الذي يعتبر التطوّع في الجيش خدمة للمصلحة العامة واختباراً للرجولة، ويعتبر التهرّب من التجنيد عاراً على الرجال. نورمان يتحدّث عن أخوة الدم بكثافة. هنا، تختبر الحبكة ولاء الأخوة وإخلاصهم للقيم النبيلة للماضي. في الثانية، يتمّ اختبار أخوة الدم للبحث عن الذهب المفقود. هنا، يسيل دم كثير من أجل المال، بينما يُسمَع خطابٌ مَسيحانيّ "يُطفئ الجشع إلى حطام الدنيا"، و"المال مصدر الشرور كلّها".
في اختبار أخوة الدم بالذهب. لمن النصر؟ أنقذت الحبكة المزدوجة النصف الثاني من الرتابة، وجعلته نسيج عنكبوت بدلاً من أن يبقى تراكمياً كعمل نملة. عند كتابة اسم الفيلم في "غوغل"، يُعلَن عن مليار ونصف مليار نتيجة بحث في نصف ثانية. إذاً، هذا فيلم يقول شيئاً عن الحاضر، ويحمل شحنة جمالية وأيديولوجية. لاحتجاجات الحاضر بعد مقتل جورج فلويد (25/ 5/ 2020) امتداد في سوابق تاريخية كثيرة. رغم ذلك، لم تتحقّق العدالة والمساواة بعد، والجندي الأسود المتقاعد، الذي صوّت لدونالد ترامب، يُقتل في الفيلم بوحشية. بإطلاق الفيلم تزامناً مع الاحتجاجات الراهنة، يُصفّي سبايك لي الحساب مع المرحلة. يريد قول كلّ شيء دفعة واحدة ومباشرة أكثر مما ينبغي، فيبدو الفيلم خطابياً في عشرات اللقطات. فنياً، الفيلم أقلّ من مستوى أفلامٍ تناولت واقع السود في أميركا، كـ"غرين بوك" (2018) للمخرج الأبيض بيتر فاريلّي.
الطاقة النضالية المكشوفة مضرّة بالسينما. مهاجمة دونالد ترامب والعنصرية، وترديد شعارات "حياة السود تساوي"، لا تُحوّل مرافعةً سياسية تاريخية إلى فيلمٍ مُدهش.