جاء تأكيد وزارة الأوقاف المصرية عزمها المضي في تنفيذ مشروع الأذان الموحد، ليذكّر المتابعين بما آل إليه فن الأذان المصري، الذي يشهد في السنوات الأخيرة تراجعاً كبيراً بعدما اختفت الأصوات المميزة، والحناجر الذهبية التي كانت تصدح بنداء الصلاة، ويتردد سحرها من مآذن القاهرة.
تتزايد الشكوى كل يوم من رداءة أصوات المؤذنين، وعشوائية اختيار المؤذن. ومنذ نحو عشر سنوات، حاولت وزارة الأوقاف توحيد الأذان، باختيار مجموعة من أصحاب الأصوات الجميلة، وبث أذانهم في المساجد الكبرى من خلال شبكة صوتية إلكترونية. لكن المشروع توقف بسبب اعتراضات واسعة - حينها - وأيضاً بسبب ضعف الاستعداد التقني.
وفي مطلع هذا الشهر، أكدت وزارة الأوقاف أنها ستبدأ فعلياً في تنفيذ بث الأذان الموحد في عدد من المساجد الكبرى في القاهرة، وفي مقدمتها مساجد الحسين والسيدة زينب وعمرو بن العاص والسيدة نفسية، وأيضاً مسجد النور في العباسية. الخطة تستهدف، وفق الوزارة، تطبيق توحيد الأذان في 100 مسجد بالقاهرة، تمهيداً لتعميمها على كل مساجد مصر، مع مراعاة فروق التوقيت بين المحافظات.
مصر هي موطن التلاوة والإنشاد والتأذين. مشايخها الكبار كانوا بلابل تغرد فتأسر القلوب. وفي فن الأذان، تمتلك مصر تاريخاً كبيراً ورصيداً مهماً، وتسجيلات تنبئ بما وصل إليه هذا الفن من ازدهار وقوة وألق.
إذا أذّن الفجر
يجمع الموسيقيون والنقاد والمهتمون بتاريخ التلاوة والإنشاد الديني في مصر، على أن أذان الشيخ علي محمود هو الأجمل والأخطر والأصعب بين ما وصلنا من تسجيلات أذان الصلاة لكبار القراء والمنشدين. والشيخ علي محمود (1878- 1946)، المقرئ، والمنشد، والمؤذن، والموسيقي، والملحن، وأستاذ أعلام الطرب، وإمام دولة الإنشاد الديني في مصر والعالم الإسلامي، كان بذاته مدرسة لتخريج الأعلام، وكان الالتحاق ببطانته شهادة ميلاد واعتماد، لا تمنح إلا للعباقرة، من أصحاب المواهب الفذة، والإمكانات الفنية الكبيرة.
وبالرغم من أدائه للأذان مرات لا تُحصر، وبمقامات مختلفة، فلم يصلنا للشيخ علي محمود إلا تسجيل وحيد وفريد للأذان، سجله في أواخر حياته، وهو من مقام البياتي، ويكاد يتفجر بالشجن والطرب. يرى كثير من المتخصصين أنه أذان صعب جداً، يعسر تقليده، فهو مشبع للغاية، لأن الشيخ مر فيه صعوداً وهبوطاً على كل درجات المقام، بنبرات سريعة جداً، وقفلات غاية في الإحكام.
في روايته "خان الخليلي"، كتب نجيب محفوظ: "اسمعوا القول الفصل: أجمل ما تسمع الأذن سي عبده إذا غنى يا ليل، وعلي محمود إذا أذّن الفجر، وأم كلثوم في إمتى الهوى، وما عدا هؤلاء فحشيش مغشوش بتراب".
أما الكاتب الأديب عبد العزيز البشري، فكان صاحب ألطف وصف لفن المنشد الكبير، إذ قال: "إن صوت الشيخ علي محمود من أسباب تعطيل حركة المرور في الفضاء، لأن الطير السارح في سماء الله لا يستطيع أن يتحرك إذا استمع إلى صوت الشيخ".
تسجيلان
من أهم تسجيلات الأذان ما تركه لنا أمير القراء الشيخ محمد رفعت (1882 – 1950). فقد وصلنا بصوته تسجيلان للأذان، أولهما بمقام السيكاه، والثاني بمقام الراست، وكلاهما بديع أخاذ.
وقد ظل التلفزيون المصري لعقود يبث أذان السيكاه وقت صلاة المغرب، بينما كانت بعض الإذاعات تقتصر في بثها للأذان على تسجيل مقام الراست، ما وضع الصيغتين في مكانة كبيرة عند الجمهور، حيث يشكّل الأذان بصوت رفعت جزءاً مهمّاً من وجدان الشعوب العربية، باعتباره أحد المعالم الكبرى لشهر رمضان.
الحجاز في دمشق
ترك زعيم دولة التلاوة المصرية الشيخ مصطفى إسماعيل عدة صيغ بديعة للأذان، اتسمت كلها بالقوة والجمال والتأنق الفني، رغم تباعد وقت تسجيلها، واختلاف أماكن انطلاقها، ما بين استديوهات الإذاعة، أو المساجد، داخل مصر وخارجها.
ومن أعظم تسجيلات الأذان وأجلها على الإطلاق أذان مقام الراست للشيخ مصطفى، والذي كان التلفزيون المصري يبثه يومياً وقت المغرب، منذ أواخر السبعينيات، وحتى أوائل التسعينيات. وقد بلغ الشيخ في هذا الأذان ذروة عليا، سواء في التنغيم الطربي، أو في طول النفس، أو في حلاوة الصوت وعذوبته.
أدى الشيخ العبارات الأولى من الأذان أداء هادئاً، لا ينبئ بمفاجأته الكبرى التي ادّخرها للحيعلتين، حيث ذلك الثراء الباذخ المهيب، إذ بلغت "حي على الصلاة" 36 ثانية، وهو زمن طويل جداً، ولا سيما مع ما يفعله الشيخ من تصعيد وتنقل وتغيير لطبقات صوته. أما "حي على الفلاح"، فقد حشد لها الشيخ مصطفى قدراً كبيراً من العُرب والتلوين، لتكون مختلفة تماماً عن عبارة "حي على الصلاة"، رغم أن كليهما من مقام الراست. هذا أذان جدير بأن يوضع ضمن أعلى مراتب هذا الفن، بل ضمن أجمل ما سمعته الأذن من مقام الراست.
رفع الشيخ مصطفى إسماعيل الأذان خارج مصر، في كبرى المساجد بالعواصم العربية والإسلامية، وفي مقدمة هذه المساجد يأتي الجامع الأموي بدمشق، حيث كانت للشيخ صولات تاريخية من التلاوة الفنية الموسيقية الأخاذة، كما كان له حظ وافر من صيغ الأذان، الذي كان يؤديه بناء على رغبة الجماهير المحتشدة لسماعه، ومن هذه الصيغ نستمع إلى أدائه للأذان، الذي رفعه بالمسجد الأموي، خلال إحدى زياراته لسورية عام 1959.
وبالرغم من كون الأذان من مقام الحجاز، إلا أنه يختلف كثيراً عن أذانه الشهير من المقام نفسه، والذي تبثه إذاعة القرآن المصرية دائماً، ونلاحظ شحنة الشجن والطرب في عبارة حي على الصلاة.
ثلاثة مقامات
ربما كنا محظوظين، فقد وصلتنا حتى الآن ثلاثة تسجيلات للأذان بصوت بلبل التلاوة والإنشاد الشيخ طه الفشني، بمقامات الراست والبياتي والحجاز. تسجيلات الرجل تمثّل ثروة فنية وروحية كبرى، ومنهلاً يستقي منه عطاش هذا الفن الخالد.
لعل أشهر تسجيلات الفشني في الأذان تلك الصيغة البديعة والفريدة التي تركها لنا الشيخ من مقام الراست، وتتميز بقوة الاستهلال ووضوح النغم مع العبارة الأولى، كما تتميز برشاقة الجمل وتأنقها. وكالمعتاد، كانت الحيعلتين ميداناً للإبداع واستعراض الطاقة الصوتية والخيال النغمي. يتبدى صوت الشيخ فيهما مليئاً ثرياً. إنه أذان في غاية الجمال، غني بالعُرب والحليات والزخرفة الصوتية التي كان الفشني أحد أكبر فرسانها المقتدرين.
الحجاز كار
ومن أقوى ما وصلنا من هذا الفن بمقام الحجاز، أذان الشيخ سيد النقشبندي، ويتميز كما هو متوقع بقوة الصوت، وإحكام الجمل، وتضم عبارة "حي على الفلاح" الثانية تلويناً جميلاً، حين لامس الشيخ مقام الحجاز كار، ليزيد من مسحة الشجن والطرب في أذانه، وهو تصرف ساهم في انتشار هذا الأذان وشعبيته، حتى غدا علامة من علامات شهر رمضان.
أذان الراست
ترك لنا المقرئ الكبير الشيخ أبو العينين شعيشع أذاناً فريداً، من مقام الراست، بثته الإذاعات المصرية والعربية عبر عقود. لعلّ صوت شعيشع من أغرب أصوات المشايخ وأندرها، فهو يعصر الحروف عصراً، ويضغط على مخارجها بقوة، لكن رغم ذلك يتميز صوته بلمعة وبريق في غاية الجمال. وقد أدى الحيعلتين في أذانه أداء اتسم بالإطراب والثراء والزخرفة الأخاذة.
الأول والثاني
وكان الشيخ كامل يوسف البهتيمي صاحب صوت قوي صداح، وهو من تلك النخبة العظيمة من المشايخ الذين جمعوا باقتدار بين تلاوة القرآن وبين الإنشاد الديني. وقد ترك لنا أكثر من تسجيل جميل للأذان؛ الأول، هو أذانه الشائع المشتهر من مقام الراست، ورغم جماله وجهوريته إلا أن كثيرين من عشاق الشيخ البهتيمي يرون أنه غير دال على مدى قوة صوت الشيخ وعظمة أدائه. وأما صيغة البهتيمي الثانية للأذان فهي من مقام الحجاز، وهي تسجيل حي من أحد المساجد، وفيه يتبدى صوت الشيخ البهتيمي في عنفوان وقوة وطرب، ولا سيما في الحيعلتين.
نوادر الكرد
وبتأمل تلك الأمثلة لصيغ الأذان التي توقفنا معها بأصوات كبار القراء والمنشدين المصريين، سنجدها يسيطر عليها أربعة مقامات، وهي الراست، وكان له الحظ الوافر، ثم الحجاز، ثم البياتي، ثم السيكاه، وتحديداً بفرعها الشهير الهزام. فالمزاج المصري العام لا يستسيغ كثيراً الأذان بغير هذه المقامات الأربعة، كما يفعل بعض مشايخ البلدان العربية؛ فتجد المستمع المصري غير حفي بأذان من الصبا أو النهاوند.
وقد اشتهر قارئ مصري باستخدام مقام الكرد في تلاوته وأذانه، وهو الشيخ محمود محمد رمضان، الذي كان يقرأ بالكرد لفترات طويلة وليس مروراً سريعاً كما يفعل غيره. يشعر المستمع معه أن لديه قدرة كبيرة على تطويع هذا المقام، ليصبح مستساغاً ومحبباً. لكن نموذج محمد رمضان في حقيقته هو مجرد استثناء يؤكد القاعدة، وأن المشايخ المصريين الكبار اقتصروا على الأذان من الراست والحجاز والسيكاه والبياتي.
كما أن تتبع ما تركه كبار مشايخنا من صيغ الأذان يؤكد ندرة التأذين من مقام السيكاه، وتحديداً فرعها الذي يستخدمه القراء وهو الهزام، فبين الأسماء التي توقفنا معها لا يوجد تسجيل للأذان بمقام الهزام إلا للشيخ محمد رفعت. فإذا جئنا إلى الأجيال التالية، فربما كان الشيخ محمد عمران من أكثر من استخدموا مقام الهزام في أذان الفجر، وإن بدت على أذانه مسحة تأثر واضحة بأذان رفعت، كما أن له محاولة لتقليد الشيخ علي محمود في أذانه الشهير من مقام البياتي.
تجد وزارة الأوقاف المصرية، إذن، مبرراتها لتوحيد الأذان، لمواجهة نشاز المؤذنين المنتشر، ووصف وزير الأوقاف المصري عملية التوحيد بأنها "خطوة حضارية تتسق مع الشريعة الإسلامية ولا تخالفها". لكن يبقى التساؤل المدوي: أين ذهبت تلك الأصوات المغردة؟ ولِمَ اختفى الأذان الجميل المطرب الذي يأخذ بمسامع الناس في الشوارع، فيجذبهم إلى بيوت الله؟