وفّرت التكنولوجيا ومنصات تخزين البيانات وبرامجها كماً هائلاً من المعلومات والوثائق التاريخيّة داخل المكتبات الوطنيّة، هذه المعلومات التي يتداخل فيها الرسمي مع غير الرسميّ تشكّل مادة دسمة للبحث الصحافيّ، خصوصاً أن الجهود الاستخباراتية تخزّن وتحفظ في هذا الأرشيف لفضول الباحثين والمهتمين، ما يتركنا أمام شكل من الحكايات "السريّة" أو "الاكتشافات" التي تظهر كل فترة، و تعيد تكوين صورة الرموز التي نعرفها وتشكّل التاريخ الذي "نؤمن" به، وقد يمتد الأمر إلى التكنولوجيا نفسها، ومنصات النشر الجماهيريّة التي تتبنّى خطاباً سياسيّاً، يعيد تكوين وعينا بالتاريخ وأشكال تمثيله، أو ببساطة، تُعيد تصنيف منتجاته وأشكاله مهددة معتقداتنا عنه.
حكايات الرموز
مؤخراً نشر، دايفيد غارو، المؤرخ والصحافي الحائز على جائزة "بوليتزر" مقالاً بعنوان "الإرث الإشكاليّ لمارتن لوثر كينغ"، ويشير فيه إلى اطلاعه على معلومات يمتلكها مكتب التحقيقات الفيدرالية تخص عمليات المراقبة التي كان يقوم بها على كينغ في ستينيات القرن الماضي. ومن ضمن هذه التسجيلات، كما يدّعي غارو، ما يشير إلى أن كينغ كان "شاهداً" بل و"يضحك" على عملية اغتصاب كانت تتم أمامه في منزل قرب البيت الأبيض. كما يتهم ج. إدغار هوفر، رئيس مكتب التحقيقات الفيدراليّة كينغ، بأنه "ليس إلا كاذباً وسفيها". وهذه التسجيلات هي دليل على ذلك، إذ يُقال إنها تحوي أيضاً صوت كينغ وهو يقدم "نصائح" لمن يقوم بالاغتصاب.
هذه التسجيلات لن تباح للعلن إلا عام 2027، ولا نعلم مدى دقة وصحة ما نقله غارو الذي اطلع فقط على وثيقة تتحدث عن هذه التسجيلات، فهو لم يستمع لها بل قرأ عنها. بل إن الكثير من الناشطين والناشطات السود رأوا فيها مجرد محاولة تشويه سمعة، واتهامات عنصريّة لا تختلف عن جهود مكتب التحقيقات الفيدراليّة في تشويه سمعة الناشطين والمناضلين السود، خصوصاً أن الجهود الاستخباراتيّة كانت تركّز على حياة الناشطين الخاصة وصفها بأنها "غير طبيعيّة" من منطلق عنصريّ.
بعيدًا عن مسألة التحقّق من صحة الكلام، ما يثير الاهتمام، وما يشير إليه غارو، هو أن هذا الشكل من "المعطيات" كان وما زال مُتجاهلاً من قبل الصحافيين، خصوصاً أن بعضها كان معروفاً في الماضي، بل إن غارو نفسه اضطر إلى نشر الموضوع في مجلة مغمورة، كون الكثير من الصحف والمنصّات رفضت التعامل معه. والأهم أن القصص المشابهة التي كانت تصل إلى الصحافيين في تلك الفترة لم تكن تعتبر "أخباراً"، ويتم صرف النظر عنها. ويضيف أن ذات السياسات تنطبق على القصص والمعلومات التي ترتبط بجون كيندي وحكاياته الغراميّة، وكأن في ذلك سعيا للحفاظ على صورة الرمز التاريخيّ وخدمة لقضيته.
بالرغم من أن الشرائط هذه ليست علنيّة بعد، وهي نتاج جهود استخباراتية، ولا نعلم بدقة محتواها ومدى صحّتها، لكن عدم تجاهلها الآن يحيلنا إلى التغيير الذي أصاب العالم وأميركا خصوصاً التي تعيد النظر في تاريخها. وحوّلت حركتا "#أنا_أيضاً" و "#حياة السود مهمة"، هذه التسجيلات أو حتى الإشارات لها إلى "أخبار". وها نحن نقرأ عنها الآن وعن الجدل الذي أثارته، وبالرغم من عدم معرفة صحتها أو عدمها، لكن الحركتين السابقتين، خلقتا مساحة ودعوة لإعادة النظر في الرموز التاريخيّة، وللإشارة إلى الطريقة التي وصل إلينا بها التاريخ وتكون في وعينا به وبرموزه.
هذه القراءة الجديدة للتاريخ حسب "معطيات الآن"، وسيلة للتحرر من سطوته، ومحاولة لفهم كيفية تكونه، والقيمة التي يمتلكها رموزه. فكما نقرأ أن كولومبوس كان مُغتصباً ومرتكب مجازر، وأن غاندي كان عنصرياً، لا بد من مناقشة ما يمكن أن يكون جريمة شهد عليها كينغ، ما يعني أيضاً أن أصوات الكثيرين ستظهر للحديث عما هو مشابه ويمس شخصيات أخرى.
التلاعب بالتصنيفات
هذا الصواب السياسيّ وأسلوب قراءة التاريخ ورموزه، يمتد إلى المنصات التي تختزن أشكال تمثيل التاريخ، تلك المنصات التي تدّعي حرية النشر والتبادل، في ذات الوقت تحترم الآخر، ما يطرح أسئلة عن مفهوم التصنيف لما هو "مباح" و"ممنوع". ففيسبوك مثلاً حذف الصور والمنشورات الخاصة بالسوري عبد الباسط الساروت، معتبراً إياه ينتمي لجماعة إرهابيّة، مثيراً جدلاً كبيراً، ما أدى إلى ضغوط من قبل الصحافيين والناشطين على إدارة فيسبوك لإزالة تصنيفه من تحت خانة "الإرهاب". الأمر نفسه حصل مع يوتيوب، الذي قام مؤخراً بتحديث سياسات النشر لديه، وزاد القيود على خطاب الكراهيّة والمضمون العنصريّ. هذه "التصنيفات" التي تبدو مقنعة بداية، والتي تقنن "المحتوى"، تخلق تناقضاً، سببه أن الكثير من أشكال التاريخ التي ندرك "عُنصريتها" تتلاشى. لكن لا بد لنا أن "نتلقاها" لأسباب معرفيّة وتاريخيّة، كذلك من الذي يعرّف خطاب الكراهية والبروباغاندا العنصريّة؟ وكيف يمكن لنا أن ندرس هذه الحالة ونعرفها إن لم تكن متوافرةً ومتاحة للعلن؟ لا نتحدث هنا عن الفيديوهات الشخصية التي يبثها أفراد، بل نناقش كلمة "محتوى" التي لا تأخذ بعين الاعتبار النوع الفنيّ أو الثقافيّ الذي قد يحوي "كراهيّة" واضحة، لكنه ذو قيمة وثائقيّة وتاريخية. وما حدث أنه، وبسبب تحديث سياساته، حذف يويتوب فيلم البروباغاندا النازية "انتصار الإرادة" الصادر عام 1935، بوصفه يروّج للنازيّة ولخطاب الكراهيّة، لكن الفيلم ذاته ومع إدراكنا التام أنه نازيّ، يعتبر وثيقة تاريخيّة هامة عن طبيعة الفكر النازيّ و أدواته. والأهم أن الفيلم يدرّس في الجامعات، كمثال على خطورة الصورة المتحركة ودورها في حشد الجماهير، ويكشف قدرة السينما على تبجيل فرد وتحويله لأسطورة، فهو يمتلك قيمة سينمائيّة وتقنية مشابهة للفيلم السوفييتي "المدرعة بيتموكين".
لا نقول هنا إن يوتيوب استبدل الأرشيف أو عمليات البحث العلمي، إلا أن التاريخ الشعبي والوعي به بتمثيلاته يحضر ضمن هذه المنصات المجانية التي يتوافر فيها، نظرياً، "كل شيء"، في ذات الوقت تحكمها سياسات وصواب سياسيّ قد يهدد إدراكنا للكثير من الحقائق، خصوصاً أن هذه المنصات على المستوى السيميائي.