شعور الغربة هذه بعيدًا عن برلين، جعلتها تبحث عن طرق للتعبير عن نفسها، ومنذ جيل صغير، أخذت الموسيقى وكذلك المسرح والكتابة للجرائد مساحة من حياتها، وعندما كانت في الرابعة عشرة من عمرها، نظّمت جميلة اليوسف أوّل مهرجان ضد العنصريّة، "لأن البلدة التي عشت فيها، عند شرق شمال ألمانيا، كان بعض سكانها عنصريّين"، تقول جميلة، مما خلق أيضًا فضاءات يلتقي فيها الناس، وأصبحت جزءًا من شغفها.
تأثرت جميلة بوالدها كثيرًا، بأفكاره السياسيّة، هو اللاجئ من قرية صرّة في قضاء نابلس، "هو رجل مليء برغبة وشغف للتأثير وللتغير الإيجابي في الشرق الأوسط"، تقول جميلة، وتتابع: "وأنا ترعرعت ضمن هذه الأجواء السياسيّة، لم أترعرع وسط أجواء فنيّة عربيّة، لم تكن الموسيقى والأفلام حاضرة بقوة في حياتنا، لكن السياسة كانت دائمًا موجودة؛ الدفاع عن الناس ضد الظلم ومساعدة الفقراء، هذا الجوّ السياسيّ اليساريّ الذي ترعرعت به كنهج نحو الوصول إلى شكل حياة عادل على هذه الأرض".
اليوم، وهي في الثامنة والعشرين من عمرها، لا زالت جميلة تعتقد بأنها ذاك الشخص "حاملًا لأكثر من بطيخة"، لكنها مؤخرًا، تحاول أن تركز على أشياء محددة، فقد بدأت دراسة الدكتوراه بعد حصولها على منحة، حيث ستكتب عن العبور بين الثقافات كمفهوم لتمثيل الموسيّقيين اللاجئين في ألمانيا، حيث ستتابع 4 مشاريع موسيقيّة ألمانيّة تعمل مع لاجئين. فهذا هو الجانب الأكاديميّ من حياة جميلة؛ كتابة المقالات والأبحاث والحديث عبر منصات أكاديميّة، ووجودها في هذا الحقل المعرفيّ كرغبة منها لتسهيل وصول الناس إلى الموسيقى والثقافة. عن هذا تقول: "هنالك مقولات أو أفكار حول أن الموسيقى تعمل على الاندماج وتمدّ الجسور بين البشر وهكذا، وطبعا هي تقوم بذلك الدور، لكني أريد أن أكون نقديّة أكثر تجاه هذه المقولات والأفكار، لأنه كي تحقق الموسيقى هذه الفكرة أكثر، يجب أن تكون هنالك قاعدة مشتركة معينة، كما ظروف محددة لتحقيق هذه الفكرة".
خلال السنوات الأخيرة، عملت أيضًا جميلة على تنظيم نشاطات ثقافيّة عديدة، كقيّمة على مشاريع ومهرجانات ومنتجة لمسرح وموسيقى ومهرجانات أفلام، أكبر هذه المشاريع هي مجموعة "عرب أندرغراوند" في برلين، "هذا هو الجانب التنظيمي في حياتي، تجميع الناس وخلق منصات سوية"، تقول جميلة.
عام الموسيقى
بدأت علاقتها مع الموسيقى وهي في الخامسة من عمرها، أرادت بداية أن تتعلّم على آلة الكمان، "قالت لي والدتي إنها آلة باهظة الثمن"، تقول جميلة، وتتابع: "لكني حصلت على آلة الكيبورد تحت شجرة الميلاد بعدها، ومن ثم انتقلت للعزف على الغيتار كما أني تعلّمت دروس غناء كلاسيكي وأنا في الخامسة عشرة من عمري".
أثناء أحد الدروس، جاء شخص وأخبرها بأن هنالك فرقة تجهز لعرض موسيقيّ لعيد الميلاد وتبحث عن مغنيّة، فانضمت جميلة إلى الفرقة وهكذا إلى عالم غناء الجاز. عندما ذهبت للدراسة الأكاديميّة في كلية "ساواس"، وهي متخصّصة في الدراسات الشرقيّة والأفريقيّة وتابعة لجامعة لندن، درست هناك تاريخ الشرق الأوسط، وبموازاة ذلك تعلّمت الغناء في كلية الموسيقى المعاصرة، "دائمًا كانت الموسيقى جزءًا من حياتي، لكني لم أخصص لها الوقت الكامل حتى بداية العام 2017"، تقول جميلة.
لم يقم هذا العام مهرجان "الفيوجن"، وهو مهرجان فنون وموسيقى يقام مرة كلّ عاميْن، حيث تشارك مجموعة "عرب أندرغراوند" فيه، وبالتالي، وجدت جميلة بأن لديها الكثير من الوقت، وتعرّفت صدفة إلى موسيقيّين مقيمين في برلين؛ بلال (غيتار باص)، سلام (إيقاعات) وكوبا (درامز)، عدا عن ليو (غيتار باص) الذي تعرفه منذ سنوات، وخلال دعوة عشاء، رسمت جميلة مع الفرقة خطة للتدريب وتسجيل الأغاني والتصوير، تم تنفيذها خلال أسبوعين، حيث أطلقت الفرقة اسم "جميلة والأبطال الآخرون" على نفسها، ومن حزيران/ يونيو 2017 حتى يومنا هذا، شاركت الفرقة في حوالي 20 مهرجانًا موسيقيًا، منها مهرجان في تونس أيضًا.
جميلة والأبطال الآخرون
جاء اسم الفرقة من إيمان جميلة اليوسف بأننا جميعا أبطال، عن هذا تقول: "رسالتي الموسيقيّة والسياسيّة مفادها بأن جميعنا في دواخلنا أبطال، ويجب أن نكتشفهم كي نجعل العالم مكانًا أفضل. لربما هذه فكرة ساذجة، لكن إذا بدأنا بالتغيير من داخلنا، وصولاً إلى محيطنا والمحيطين بنا، فسيحدث تغيير إيجابي في العالم. لدينا قوات خارقة ويجب علينا تفعيلها، الأبطال ليسوا موجودين فقط بالأساطير والقصص والرسوم المتحركة، إنما كل منا هو بطل بحد ذاته".
أصدرت فرقة "جميلة والأبطال الآخرون" ألبومها الموسيقيّ الأوّل بعنوان "تغيير"، والذي يضم 6 أغانٍ، بالإنكليزيّة والعربيّة، الأغاني الإنكليزيّة كتبت كلماتها ولحنتها جميلة مع مساهمة من قبل أعضاء الفرقة، أما الأغاني العربيّة فهي إعادة تقديم لأغنية "فوق النخل"، وبالأخص مقاطع "حالي حالي حال"، كما لأغنية "يمّا مويل الهوى". أمّا آلات الفرقة بمعظمها فهي آلات موسيقيّة "غربيّة"، إن صح التعبير، عدا عن آلة الدربكة، التي تضيف حضورًا موسيقيًا "شرقيًا" تمامًا.
قرار جميلة بضمّ الدربكة إلى جوّ موسيقي مختلف عنها، نوعًا ما، جاء من "شعور داخلي ونفسي"، حسب تعبيرها. وتضيف: "قضيت وقتًا كثيرًا في فلسطين، وسافرت إلى دول عربيّة عديدة، ودائمًا جذبتني الدربكة. ومثل آخرين من موسيقيي الفرقة، لدي ماض واسع من موسيقى الروك وصخبها، وموسيقى محمّلة بالغضب، لأن الغضب هو شعور مهم، خاصّة في مجتمع ليس من المفروض عليك أن تكون غاضبًا فيه، ويجب أن تكون هادئًا دومًا. وحضور الدربكة مع تاريخها وثقافتها ضمن جوّ الروك الغاضب، شعرت بأنه صحيح جدًا وأعطى الموسيقى بعدًا إضافيًا".
الذاتي وارتباطه بالعامّ
في الأغاني التي تقدّمها الفرقة، الإنكليزيّة منها، تعيش أجواء من الروك والإيقاعات العالية والسعيدة، إن صح التعبير، لكن فجأة، وخلال الألبوم كما العروض، تنتقل "جميلة والأبطال الآخرون" إلى أغنية "يما مويل الهوى"، بهدوء وبلا إيقاعات صاخبة، كما بحزن واضح. اختيارها للأغنية ممتد من علاقتها مع فلسطين والهويّة، "الهويّة الثقافيّة الفلسطينيّة، بعيدًا عن الهويّة القوميّة"، تقول جميلة. وتتابع: "هذه الهويّة هي من المواضيع المهمّة في حياتي، وكبرت وسط حزن أبي، ودائمًا شعرت بأن من مسؤوليتي إيجاد حل لصراع لشرق الأوسط، كنت ناشطة لسنوات طويلة، ومع الوقت شعرت بأني لا أريد أن أفعل أي شيء بالموضوع، لأنه مؤلم كثيرًا. حتى الآن، عندما يخبرني أحد بأنه ذاهب إلى رام الله، أشعر بألم كبير. وفجأة تأتي أغنية مثل "يمّا مويل الهوى"، مليئة بالحزن وفيها الكثير من شعور الارتياح أيضًا. وهذه هي الموسيقى والغناء بالنسبة لي".
عندما بدأت جميلة بإنتاج الموسيقى، شعرت بحاجة أن تلمّس مشاعرها، "في مكان ليس من السهل أن تلمسي مشاعرك فيه"، تقول جميلة. وتتابع: "أردت أن أشعر بغضبي وحزني وألمي وسعادتي، أنا مليئة بالمشاعر، لذلك ممكن أن أنتقل من موسيقى وأغنية مليئة بالقوة والسعادة إلى أغنية عميقة وحزينة وكئيبة، وهذا ليس تناقضًا، إنما هو عرض لصراع داخلي ولهويّتي، كما بمثابة طرح أسئلة على الناس من خلال الموسيقى".
لا ترى جميلة أن فرقتها الموسيقيّة هي فرقة من أجل إقامة الحفلات والرقص فقط، إنّما تحمل أيضًا مقولات سياسيّة، "كثير من الأغاني تحتوي على كلام غير مباشر"، تقول جميلة. وتتابع: "أتكلم عن الأغاني قبل تقديمها، كي أوصل رسالتنا للجمهور، وأغنية "يمّا مويل الهوى"، هي بمثابة استراحة وسط العرض، للتوضيح بأننا لسنا فرقة للتسلية فقط".
تجهز جميلة الآن مع الفرقة لأغانٍ جديدة، من ضمنها أغانٍ خاصة بكلمات عربيّة، هنالك أغنية تحكي عن الحزن والسعادة، تبدأ بكلمات عن الحزن والغضب، "نحن نفكر بأن ما نشعر به يخصنا فقط، وهذا ليس صحيحًا، شعورنا هو مجتمعيّ، له علاقة بشكل حياتنا وبالمنظومات التي نعيش فيها"، تقول جميلة. وتتابع: "من الطبيعي أن نشعر بالحزن والغضب، ومن المهم أن نشارك هذه المشاعر، لأن هذه المشاركة بإمكانها أن تخلق وعيًا عامًا أو تعمل على تغيير، من المهم أن نكون من أجل الآخرين وأن نشارك قصصنا وسردياتنا".
برلين والممكن
لبرلين مساحة خاصة في حياة جميلة اليوسف، فبالإضافة إلى كونها وُلدت يوم سقوط جدار المدينة، حيث ترعرعت ضمن هذه السرديّة وتحدثت عنها دومًا خلال طفولتها، فبرلين بالنسبة لها هي المكان الذي كل شيء فيه ممكن. عن هذا تقول: "عندما أترك برلين، أشعر على الفور باشتياقي لها، أستطيع أن أكون في كلّ مكان بالعالم، لكن نبض قلبي في برلين"، وتضيف: "اختبرت برلين دائمًا كمدينة مبدعة، يلتقي ويعيش فيها بشر من كل العالم، وبإمكانهم أن يمارسوا وجودهم. بالطبع، خلال السنوات الأخيرة أصبحت المدينة ثقيلة نسبيًا، خاصّة مع كل قضايا الجنترة (الاستطباق)، والناس خائفون على بيوتهم ويعملون دائمًا للحفاظ عليها وعلى معيشتهم الأساسيّة، لكني أشعر أن هنالك روحًا خاصّة في برلين قادمة من تاريخها، بالنسبة لي، لا أعرّف نفسي على أنّي فلسطينيّة أو ألمانيّة، لكن بمقدوري أن أعرّف نفسي كبرلينيّة، مع العلم أن هويّتي متأثرة بأماكن عديدة، فيها الفلسطينيّ والألمانيّ كما الهويّات التي اخترتها مع السّفر، وهذا ما يُسمى العبور بين الثقافات".