يُعتبر "التنفّس في الرخام" للمُخرجة الليتوانية جِيَدْري بينوريوت (1976) من أهم أفلام الإثارة والدراما والسيكولوجيا، المعروضة في مسابقة "شرق الغرب" في الدورة الـ53 (29 يونيو/ حزيران ـ 7 يوليو/ تموز 2018) لـ"مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي". وأهميته نابعة أساسًا من المستوى السيكولوجي اللافت للانتباه، الذي عملت بينوريوت على إبرازه بطريقة جذّابة ومشوّقة، من خلال أحداث السيناريو الذي كتبته بنفسها، والمأخوذ أصلاً عن رواية بالعنوان نفسه للكاتبة الليتوانية لورا سينتيجا سيرنيوسكايت (1976)، الفائزة بجوائز أوروبية مختلفة منذ صدورها عام 2006، والمترجمة إلى لغات عديدة.
شيّدت جِيَدْري بينوريوت فيلمها هذا، وهو الروائي الطويل الأول لها، على شخصيات قليلة تحمل دراما الحكاية. عبر مواقف يومية عادية تخلو كثيرًا من التعقيد والتفلسف والميلودرامية، أمكنها رسم شخصيات عميقة ذات أبعاد متشعّبة، تمتلك في داخلها كما في مظهرها الخارجي ما هو غامض. والفيلم منفتح على تأويلات وتفسيرات درامية عديدة، خصوصًا السيكولوجي أو النفسي منها. صعوبة الأمر وقوته في آن واحد، كامنتان في تمحور النصّ حول صبي صغير، بأفعاله وتصرّفاته ومشاكله النفسية غير المألوفة بالنسبة إلى عمره، وهذه كلّها تحرِّك الدراما، وتُضفي على الفيلم إثارة وتشويقًا.
سريعًا يتمّ التعرّف على أسرة صغيرة ليتوانية مُتوسطة الحال، مؤلّفة من إيزابيل وزوجها ليوداس وابنهما الصغير جيليوس. لا شيء يبدو غير مألوف أو ينبئ عن وقوع مشاكل، باستثناء أن جيليوس يُعاني نوبات ربو مُتقطّعة، ورغبتهما في تبنّي من يُشاركه وحدته. لا تتطوّر الأحداث على نحو قوي إلاّ مع اقتناع ليوداس بفكرة التبنّي، ودخول الطفل المُتبنّى إلى حياة الأسرة. لم يوضح السيناريو لماذا يرغب الزوجان في التبني أساسًا، وليس الإنجاب؟ ولماذا لم يتبنّيا طفلة بدلاً من الطفل؟
ملامح الطفل إليا (6 أعوام) تنمّ عن جمال شديد وطيبة كبيرة. بالغ الهدوء، أو بالأحرى واجم وشارد. ينطق كلمات قليلة بين حين وآخر، ويتحرّك قليلاً من مكانه. في جانب آخر، يخطو الطفل بما هو غير متوقع بالمرة: سلوكه ومُفرداته القليلة هي لشخصٍ بالغ لا لصبيّ في الـ6 من عمره. أسباب يُتمِهِ مجهولة، وإن كانت هناك قصّة غامضة عن وفاة والديه غير المفهومة وغير المبرَّرة، وآثارها عليه.
في البداية، تظنّ الأسرة أن طبيعته وسلوكه نابعان من خجله وعدم تأقلمه مع وضعه الجديد وانسجامه معها. حتى علاقته كطفل بشقيقه الجديد لم تنعقد سريعًا، كحال مُعظم العلاقات السوية بين الأطفال، المنخرطين معًا في اللهو واللعب. تدريجيًا، يتبيّن أن العلاقة بين جيليوس وإليا غير سائرة في سبيل النمو والتطوّر بشكلٍ سوي، إذْ بدأ السلوك العدواني لإليا يتكشّف شيئًا فشيئًا. يحاول جيليوس تفهّم ومعرفة أسباب سلوكه هذ، والتقرّب منه ببراءة، لكن من دون جدوى. عداونية إليا غير المُبرَّرة، بعد تجلّيها، مثيرة للدهشة، علمًا أن إيزابيل تحديدًا غير راغبة في تصوّر ما يجري ولا في تصديقه.
يُصاب الزوجان بالدهشة إزاء ظهور عدوانية إليا وفظاظته، اللتين لن توجّها إلى جيليوس وحده فقط، إذْ طالتا إيزابيل وليوداس أيضًا، اللذين يعجزان عن التصرّف إزاء الكلمات النابية والساخرة، وغيرها من أمور مُستبعدة كلّيًا عن طفلٍ في عمره. أخيرًا، يستوعبان أن سلوكه الغريب لم يكن بدافع الخجل أو عدم التأقلم مع العائلة. العجز سيّد الموقف، لأنهما لا يستطيعان مُبادلة الطفل بالسلوك نفسه، ولا يتمكّنان من المسّ به لتأديبه. يكتفيان بتهديده بإعادته إلى دار الأيتام، لكنه غير مكترثٍ.
منذ بداية الفيلم، وبصرف النظر عن مشهد الجريمة الغامض، هناك شعور بأن مأساةً ستقع. وبنشوب خلاف بين إيزابيل وليوداس بخصوص شكّها في علاقته بامرأة أخرى، يُعتَقَد أن هذا هو كلّ شيء، وأنهما سينفصلان أحدهما عن الآخر بشكلٍ حتمي. هناك تساؤلات بخصوص إليا: هل وجوده المشؤوم داخل الأسرة وعنفه الملحوظ سببان لإظهار المُخبّأ بين الوالدين، أم ماذا؟ لماذا تحمّلت إيزابيل وجود إليا معها ومع ابنها بعد انفصالها عن ليوداس، رغم إهاناته الوقحة لها، وانفجار غضبها عليه ذات مرة؟
غموض كثير يعتمل في المخفيّ، ويغلّف الشخصيات وتصرّفاتها التي يصعب، نفسيًا، إيجاد ما يُبرّرها في الأحوال كلّها، خصوصًا التصرّفات المُثيرة لإليا. إلى ذلك الغموض، تَعَمَّدت جِيَدْري بينوريوت توظيف المونتاج لخلق قفزات زمنية جعلت السيناريو لا يتبع مسارًا خطيًا مُعتادًا. لذلك، يُمكن ـ إلى جانب المشهد الافتتاحي ـ تقسيم الفيلم إلى قسمين: يبدأ الأول مع مرحلة تبني إليا، ويبدأ الثاني مع مُحاولة تفسير الجريمة والأحداث المُحيطة بها وبمن ارتكبها.
في النهاية، مع استدعاء المشهد الافتتاحي، يسهل تبيّن أن إليا، بعد أعوام قليلة، قتل جيليوس. ليس في هذا حرق للأحداث من جانب بينوريوت، أو عيب مونتاجي. ليس هذا ما يطرحه الفيلم، بل أسئلة شائكة عديدة، منها: ما السبب، وما هي الدوافع؟ ما الذي جعل إيزابيل تُبقي إليا في العائلة تلك الأعوام كلّها؟ لماذا طاردته في الغابة بعد الجريمة، ثم تركته؟ لِمَ لم تقل إنه قاتل ابنها؟ لماذا لم تصارح زوجها السابق بما حدث؟ الأغرب من ذلك: ما سرّ عاطفتها المُريبة تجاه إليا؟
هذه الأسئلة كلّها تركها "التنفس في الرخام" من دون مُحاولة الإجابة عليها، ما زاد من قيمته وقِيَم شخصياته فنيًا، وجعله أعمق وأكثر إثارة في المستويات كلّها، بما فيها المستوى النفسي، السابق لكلّ شيء.