تتكوّن القاهرة القديمة من قسمين يختلفان عن بعضهما كثيراً. فالأولى هي القاهرة الفاطمية، وهي الأقدم والأكثر ازدحاماً، والمعروفة بشوارعها الضيقة وأزقتها ودروبها الأكثر ضيقاً وازدحاماً بالمحال التجارية والمساجد والأسبلة والأضرحة، وبوابات الأحياء والأسواق. أما الثانية فهي القاهرة الخديوية، وهي الأوسع والأحدث تخطيطاً وتنظيماً، وحتى عدة عقود خلت كانت القاهرة الخديوية عروسَ المنطقة، وقد اشتهرت أحياؤها وشوارعها في عهد أسرة محمد علي بالنظافة والجمال والتحضر، وكانت تزدان بفنادقها وشركاتها ومبانيها التي استوحت الطراز الأوروبي في كثير من تفاصيلها.
نحَّاتون أوروبيون
الآن لم يتبق من القاهرة الخديوية سوى القليل، حيث زحفت على مبانيها الكثير من العمائر الأسمنتية الجافة التي لا تراعي الذوق الفني السائد الذي استوحته مبانيها العريقة من أوروبا. ومن القليل المتبقي في تلك الأحياء مجموعة من التماثيل الرائعة التي صمدت في بعض الميادين والشوارع، لتكون شاهدةً على عصر جميل مضى. كانت القاهرة خالية من التماثيل في الشوارع طيلة تاريخها القديم إلى أن جاء عصر الخديوي إسماعيل في القرن التاسع عشر، عندما شرع يزين القاهرة استعداداً لاحتفالات افتتاح قناة السويس عام 1869، فاستدعى بعض الفنانين الأوروبيين لتجميل المدينة. وأنشأ دار الأوبرا المصرية، ووضع أمامها تمثالاً لإبراهيم باشا والد الخديوي، ونحته المثال الفرنسي كورديه الذي صنع عدة تماثيل لا تزال تزين بعض ميادين القاهرة.
إبراهيم باشا
عام 1872؛ وفي ميدان الأوبرا وسط القاهرة وضع تمثال لإبراهيم باشا ابن محمد علي، على صهوة جواده وهو يشير للأمام بإصبعه، واشتهر التمثال عند بعض عوام المصريين باسم "أبو إصبع". وكان كورديه قد صنع لوحتين لتزيين قاعدة التمثال، ولكن الدولة العثمانية رفضت وضعهما لتصويرهما المعارك بين إبراهيم باشا والعثمانيين. وقد سافرت اللوحات مع المثال الفرنسي وضاعت عنده. ولكن في عام 1948 استعانت الحكومة المصرية بالفنان أحمد عثمان ومنصور فرج لصنع لوحتين مشابهتين، حيث وضعتا على قاعدة التمثال حتى اليوم.
لاظوغلي باشا
في نفس العام 1872 صنع الفنان جاك مار تمثالا لأول وزير للدفاع في عهد محمد علي، وهو لاظوغلي باشا، والذي كان قبلها وزيراً للمالية. ووضع التمثال في الميدان الذي سمي باسم لاظوغلي، واشتهر المكان بعد ذلك بسبب احتلاله لمبنى وزارة الداخلية القديم وجهاز أمن الدولة الذي ما زالت إداراته القديمة تعمل بالمكان أمام التمثال العتيد.
أسود قصر النيل
كان إنشاء كوبري قصر النيل مفخرة للحكومة في عهد إسماعيل، فقد كان أول كوبري على النيل، وبدأ العمل فيه عام 1869، واكتمل في عام 1871 ويمتد طوله 406 أمتار. وأراد إسماعيل أن يزين الكوبري بشيء يبقى عبر الزمن، فطلب من الفنان جاك مار أن يصنع له تماثيل أربعة توضع على جانبي كلٍ من مدخلي الكوبري. وتولى مار ومعه المثال الفرنسي أيضا أوجين غلوم والمصور جام ليون صنع التماثيل من البرونز القوي. وصنعت التماثيل في فرنسا على شكل أسود رابضة تحرس الجسر، ثم نقلت إلى الإسكندرية عبر البحر المتوسط، ومنها إلى القاهرة لتوضع في مكانها الحالي. ويحمل إسماعيل لقب أبو السباع، الذي أطلقه المصريون عليه بسبب تلك التماثيل، بل ظل لفترة طويلة لقبا لكل من يحمل اسم إسماعيل دون أن يعرف كثيرٌ من الناس أصل التسمية.
مصطفى كامل
لم يكن الشعب المصري بعيداً عن صناعة التماثيل، ففي عام 1913 اكتتب المصريون لصنع تمثال يخلد ذكرى الزعيم مصطفى كامل أحد رواد الدعوة إلى استقلال مصر عن بريطانيا. وصنع التمثال الفنان الفرنسي ليوبولد سافان، ووضع في البداية أمام كلية الحقوق التي أسسها مصطفى كامل في جامعة القاهرة، ثم نقل بعد ذلك إلى الميدان المسمى باسمه وسط القاهرة.