عين مغلقة تنفتح على شاشةٍ، مساحتها 12 مترًا. بهذه اللقطة، يفتتح دوني فيلّنوف فيلمه "بلايد رانر 2049"، الحاصل على جائزتي "أوسكار" في فئتي أفضل المؤثّرات البصرية (جون نلسن وغيرد نفْزر وبول لامبير وريتشارد ر. هووفر) وأفضل تصوير (روجر ديكنس) في النسخة الـ90 لجوائز السينما الأميركية (4 مارس/آذار 2018).
في الفيلم كاميرا تقدِّم لقطة ضبابية، وتقترب من هدفها بحركة بطيئة. بمرور ثوانٍ قليلة، تنجلي تفاصيل المشهد. غالبًا ما تحتل التفاصيل خلفية الـ"كادر" لا مقدمته. في كلّ لقطة مُثير مرئي في المركز يشدّ النظر، ويحيط به فضاء فارغ بغرض توجيه انتباه المُشاهد إلى ذلك المثير. تقترب منه الكاميرا ببطء. لا زحمة في اللقطات، بل عناصر جوهرية منتقاة قليلة كي لا يُرهق تدفّق المعلومات وعي المُشاهد نفسه.
استخدم مدير التصوير روجر ديكنس الضوء باقتصادٍ شديد. أبرز درجات ألوان مؤثّرة. هناك دائمًا مربّعات ضوء تشعّ من عمق الـ"كادر"، ثنائي المسافة. في اللقطات ضوء متدرّج، يصدر من نقاط متباعدة في كلّ واحدة منها، ما يعطي انطباعًا بأننا أمام لوحة زيتية. رغم كثافة التغطية التصويرية، يُرجّح أن فيلّنوف لم يحصل على هذه الصُوَر أثناء التصوير، بل جرى الاشتغال على الصورة في مرحلة ما بعد الإنتاج أيضًا.
عادةً، توجد مسافة نصف متر أو 5 أمتار أو أكثر بين الكاميرا ووجه الممثل. لذا، يُعرَض البطل بوجهٍ كبير، ثم يتوارى كي يظهر صغيرًا وسط ديكور هائل، ويجري عرض سلّم اللقطات هذا بالتناوب. هذه صيغة بصرية تضبط الإيقاع. تتكرّر الصيغة طيلة الفيلم. جاء الإيقاع بطيئًا. هذا يناسب سينما المؤلف. مثلٌ: تستغرق لقطة على وجه السيد "K" (الممثل الكندي الموهوب راين غوزلينغ) أكثر من 20 ثانية. هذا ليس إيقاعًا هوليووديًا تجاريًا، يُقدِّم لقطات تمتدّ 3 ثوان تقريبًا، وهي مدة كافية لتلتقط العين البشرية المعلومة. يتسبّب تركيز المخرج على الصورة في إبطاء إيقاع السرد. هذه مغامرة جمالية، لأن الفيلم أنتج بميزانية ضخمة لـ"سوق فرجة" تلهث وراء أفلام الحركة السريعة.
الفيلم، بهذه المواصفات، مدخلٌ إلى فهم اللغة السينماتوغرافية. لذلك، لم تركز عليه المتابعة الإعلامية المهتمّة عادة بمضامين الأفلام لا بأساليبها. يبدو أن فيلّنوف متواطئ مع ديكنس لإجراء تمارين بصرية. مدير تصوير مشهور بأسلوبه، وبعمله مع الأخوين جويل وإيثان كُوِن في "هايل، سيزار" (2016). "أوسكار" الصورة يجعل "بلايد رانر 2049" يُنسَب إلى مدير التصوير، أكثر من المخرج.
في الفيلم حوارات قليلة قصيرة تفصلها لحظات صمت. كُتب السيناريو (هامبتون فانشر ومايكل غرين، عن فكرة لفانشر وريدلي سكوت، انطلاقًا من شخصيات ابتكرها فيليب ك. ديك) لتُغني الصورة عن التعليق. أي صورة تُنتج معنى. لا قيمة للصورة إن لم تُنتج إحساسًا ومعنى من تلقاء نفسها. إذا كانت العلاقة بين الكلمات والأشياء اعتباطية، فهي مختلفة بين الصورة وما تعرضه وتشير إليه. إنها تقدِّم موضوعها مجسَّمًا، وببطء. لذلك، لا بدّ من صبر شديد في المُشاهدة (163 دقيقة) ليتكشَّف المعنى. لا قيمة لهذه الحيل الأسلوبية إن لم تُنتج معنى يحتويها ويذوب فيها.
يقتفي الفيلم خطوات محقّق قام بالمهمة المطلوبة منه، وحصل على جائزة. لكنه يكتشف سرًا يدفعه إلى القيام بتحقيقٍ لحسابه الخاص. تحقيق مفعم بالعواطف، وليس مهنيًا باردًا.
يتنقّل المحقق في سيارة طائرة تحرّره من زحام المدينة. تمّ التصوير من فوق، أي من السماء، لإبراز هذا التحرّر. المحقق كائن رقمي، يتحرّك في فضاء عجائبي تنتفي فيه حواجز المكان والزمان. يشتهي المطر في الصين، فيصلها وتتبلّل حبيبته. يتلقّى اتصالاً في لحظة حميمية، فيسارع إلى خدمة أسياده. هذه هي "العبودية الذهبية". مثلٌ: لدى المحقّق جارية إلكترونية يُخفيها حين لا يحتاج إليها، لكنها تتأنسن وتتمرّد فتظهر عليها الغيرة. هذه مقاربة الفيلم: تأنسن الآلة، وفرضية الوجدان الاصطناعي. العلامة الأولى للأنسنة هي البحث عن الحرية. تبدأ طريق الحرية بالتمرّد على الوضع القائم.
بعد ساعة، يرتفع منسوب العنف ضد العبيد المتمرّدين لإخضاعهم. يصل غبار الدمار إلى الكاميرا، ويبدو كأنه يقع على وجه المُشاهد. هكذا تفوّق دوني فيلّنوف في تقديم الدراما بصريًا، و"الدراما هي التقديم المشهدي للكلام والفكر والسلوك" ("قاموس السرديات" لبرنس جيرالد، ترجمة السيد إمام، "دار ميريت"، القاهرة، الطبعة الأولى، 2003، ص. 52). مشهدٌ، لا ثرثرة.
نحن في كاليفورنيا عام 2049. الفيلم خيال علمي، مؤسَّس على معطيات آنية مكشوفة أمام الجميع. حاليًا، تزداد كلّ يوم مساحة التكنولوجيا في حياة البشر. صارت الآلة الذكية تقوم بالمهام كلّها. يتخيّل الفيلمُ المستقبلَ بعد ثلث قرن، وينطلق من سؤال: ماذا لو تسلّحت الآلة الذكية بالإرادة؟ "لو": هذا ما يحكيه الفيلم. كيف تصوغ أفلام الخيال العلمي شكل المستقبل؟ تحاول تحديد المجهول بالمعلوم الآن. كلّ يوم يرتفع إيقاع الحياة، ويُفترض بالإيقاع أن يكون أسرع بعد عقود. تأسيسًا على هذا الاحتمال، تقدّم أفلام الخيال العلمي مجتمعًا أسرع وأكثر تطورًا. تقوم الأزرار بمهامٍ كثيرة، فتقتصر مهمّة جسم الإنسان على تحريك أنامله وشفتيه ليأمر الأزرار، ما يُزيد من غروره، ومن انكماشه أيضًا.
رغم هذا التطوّر المهول، ينذر "بلايد رانر 2049" بمستقبل بشع. الموديل الجديد يحارب الموديل القديم. في كاليفورنيا، مبانٍ مدمَّرة وبشر محتجزون وعنف شديد، والمستقبل مرعبٌ. هوس تصوير القيامة قبل الأوان. يجري البحث عن سرّ في كتاب أصفر يُحيل إلى رعب ديني من المستقبل. الحداثة تقدمية، تعلن أن الغد سيكون أفضل وقد تحقّق هذا لغاية الآن، بينما تقول الرواية الدينية إنّ المستقبل سيكون كارثيًا. يصدّق الناس نبوءات الدين عن القيامة الآن أكثر مما يصدقون الحداثة التي غيّرت حياتهم في القرنين الأخيرين. حداثة سهّلت تنقّلهم، ومدّدت أعمارهم، وحمتهم من البرد والجوع والعجز الجنسي والعمى.
في الفيلم، نسقٌ بصري يذكّر بـ"2001: أوديسا الفضاء" (1968) لستانلي كوبريك. فيه عنف سادي يذكّر بإذلال النساء في "البرتقالة الآلية" (1971) و"عيون مغلقة على اتساعها" (1999). سياسيًا، يذكّر بأجواء رواية "1984" لجورج أورويل، الصادرة عام 1949. في فيلم دوني فيلّنوف، تتحدّث السيدة، المتحكِّمة باسم ظلّ ديكتاتور يُسمَع عنه ولا يظهر أبدًا حفاظًا على هيبته. يفتح البطل عينيه على عبوديته، وعلى اختبار درجة الانصياع الكلبيّ لنظام شبحي لكنه مهيمن. هنا، يسحق النظام الحاكم كلّ روح متمرّدة، ويمنح الأمان والذلّ المخملي للعبيد المثاليين فقط. أظنّ أنه تمّ تحديد تاريخ الفيلم بـ2049 لا بـ2048، تجنبًا للتحريض على اكتشاف التشابه مع الرواية.
ربطًا للفيلم بأفلام سابقة يُحيل إليها، عرض تشارلي شابلن في "الأزمنة الحديثة" (1936) خطر "المكننة". فيلم فيلّنوف يعرض خطر "الرقمنة". في "الأزمنة الحديثة" صراع بين الآلة والإنسان. عندما يغادر العامل، يترك الآلة خلفه ويكاد لا يتحكّم بيده التي تدير البراغي في الهواء. في "بلايد رانر 2049"، تأنسنت الآلة، وباتت لها رغبات، بينما صار الإنسان آلة. تمّ تبادل الأدوار.
هكذا خلق تمازج الاثنين أزمة وجودية بسبب هول تأثيرات الرقمنة الحسابية الباردة، التي تلغي العواطف، بينما يحتاج الإنسان إلى الحبّ والفرح والحنان، وإلى دفء الذكريات. بصريًا، تبدو الذكريات شراراتٍ مبهجةً في محيط أسود لا متناهي. لتأكيد شدّة التمازج، يبحث المحقّق عن ماضيه المنفلت. يحمل في يده تمثال حصان. يبحث عن طفلٍ مفقود ربما يكون هو نفسه. هكذا يفتح عينيه على تجربة وجدانية وجودية يتماهى معها المتفرّج بسهولة. يبحث في كهف يعيش فيه عجوز مع كلب. يفحص مقبرة، ويمشي مع الحبيبة تحت المطر.
لقطات ذات عمق أنتروبولوجي. مهما تطوّرت الآلة، لن تصل إلى عظمة الإنسان وذكرياته. عدا الأزرار الجديدة، تحفر أفلام المستقبل والخيال العلمي في ماضٍ عميق. المستقبل البعيد ابن الماضي البعيد. في هذه الصُور الرقمية الخارقة كلّها، تبقى قواعد السرد كما استخرجها الروسي فلاديمير بروب في كتابه "مورفولوجية الخرافة". يُكلَّف البطل بمهمة ينهض لها، ويواجه التحديات، وينتصر، وينال مكافأة.